صناعة الهوية المؤسسية: التاريخ والمستقبل

11 مايو 2021
11 مايو 2021

إن من أكثر ما يمكن الاتفاق عليه في صناعة الهوية المؤسسية Branding - بالرغم من كثرة الاختلافات التي تحيط بها - هو أن هذه الصناعة لم تبدأ بالشكل الذي هي عليه حاليا، فقد مرت صناعة الهوية المؤسسية بمراحل عديدة منذ بداياتها كممارسة حديثة منتصف القرن السابع عشر الميلادي.

ولعل أبسط توثيق لتلك المراحل ما خرج به البروفيسور روبرت جونز - وهو أحد منظري علم الهوية المؤسسية في العقدين الماضيين - والذي يقول إن تطور هذا القطاع بدأ بكونه رمزا للمِلكية في ظل تعدد مصادر البضائع وتطور المنافسة بين التجار، وهو مبدأ مستوحى من وسم المواشي للدلالة على مالكها.

وقد استمرت تلك المرحلة لما يقارب القرنين إلى أن وصلت تعددية مصادر البضائع مستوى حدا بكل من التجار والمستهلكين إلى اعتبار تلك الرموز علامات للجودة، الأمر الذي أدى بعد عقود قليلة إلى الحاجة لوجود تشريعات تحمي علامات الجودة تلك والتي تمثلت في إطلاق كل من الولايات المتحدة وبريطانيا تشريعات حماية العلامات المسجلة في سبعينيات القرن التاسع عشر.

ومع تطور وسائل الإعلام وظهور مفهوم الإعلام الجماهيري، بدأت العلاقة الوثيقة بين صناعة الهوية المؤسسية وصناعة الإعلام بالظهور. ويجدر هنا استحضار المفهوم الذي أطلقه إدوارد بيرنيز - مؤسس علم العلاقات العامة الحديث - في بدايات القرن العشرين والذي يتمثل في أنه يمكن مخاطبة سيكولوجية الشخص من أجل تحفيز رغبة ما، وأنه يمكن للشركات أن تتلاعب بطريقة تفكير الناس تجاهها، مستحضرا مثاله الشهير بإمكانية ترويج السجائر للنساء على أنها رمز للاستقلالية الشخصية.

وأدى هذا التكامل بين صناعة الهوية المؤسسية والإعلام إلى طفرة في صناعة الإعلان اتخذت من شارع ماديسون إيفينيو في مدينة نيويورك مركزا لها، والذي ولدت فيه العديد من وكالات الإعلان العالمية التي نعرفها اليوم، وظهرت منه حملات إعلانية خلدها تاريخ هذه الصناعة. ونتيجة لذلك كله يمكن القول بأن المرحلة الثالثة تلخصت في أن يكون أبرز ما يجسد الهوية المؤسسية الحملات الإعلانية.

وفي الوقت الذي اكتسبت فيه الشركات الكبرى تأثيرا متزايدا على الدول والمجتمعات في النصف الثاني من القرن العشرين، ظهرت هنالك بعض التأثيرات الجانبية كان أحدها امتداد ممارسات صناعة الهوية المؤسسية لأبعد من الشركات مثل الحملات الانتخابية السياسية والمؤسسات غير الربحية والأندية الرياضية والحكومات وحتى الأشخاص، وهو ما قرب مفهوم الهوية المؤسسية Brand أكثر من مفهوم الهوية Identity بمعناه الواسع، واكتسبت هذه الصناعة نتيجة لذلك أهمية في أنها أصبحت تمثل بوصلة المؤسسة في أعمالها وخطط توسعها من حيث المنتجات والأسواق. وفي المجمل فإن أقرب ما كانت عليه الهوية المؤسسية في المرحلة الرابعة هو معناها المباشر: هوية المؤسسة.

مع بدايات الألفية الجديدة شهدت تقنيات الاتصالات والمعلومات زخما متسارعا من حيث الانتشار والتطور والإمكانات، ونتج عن ذلك ظهور خدمات ومنصات جديدة للتواصل بين الأشخاص أنفسهم وبينهم وبين المؤسسات، واكبها تطور المشاعر والأفكار التي يحملها الأشخاص تجاه المؤسسات من مجرد فهم وتقبل هويتها إلى مستوى الانتماء. وقد أدى ذلك التفاعل بين الأشخاص والمؤسسات إلى دور أكبر يؤديه الأشخاص في تعزيز الهوية المؤسسية أكثر من مجرد كونهم جمهورا مستهدفا لها، وذلك عن طريق الإسهام في تشكيل المعاني والارتباطات الذهنية حول هوية المؤسسة وكذلك تأثير الناس على الناس عبر مشاركة الأفكار ووجهات النظر والمشاعر تجاه المؤسسات. وبناء على ذلك كله صارت الهوية المؤسسية في المرحلة الخامسة تتجسد في كونها منصات للتفاعل والمشاركة.

ولمحاولة التنبؤ بما يمكن أن تكون عليه الهوية المؤسسية في مرحلتها القادمة، فإن من المهم إلقاء بعض الضوء على متغيرات ثقافة المستهلك. ونسبة إلى ما توصل إليه كل من مارتن جولد فراب وهوارد آستر في كتابهما حول مستقبل الهوية المؤسسية، فإن ثقافة المستهلك باتت أكثر حيوية ومليئة بالقصص، وأنها تركز على مشاركة التجارب البشرية.

ويمكن الاستدلال في ذلك بميل الناس إلى عرض نصائحهم بالمجان إلى أناس لا يعرفونهم من أجل مساعدتهم في اتخاذ القرار تجاه شركة أو منتج ما، وخصوصا قرارات الشراء. كما أن مستويات المعرفة المتزايدة لدى المستهلك حول الشركات والمنتجات قد تشكلت ليس بالتجارب وحدها فحسب، وإنما بالمعلومات التي أصبح الحصول عليها أسهل في عالم تختزله محركات البحث.

إن ذلك التغير في ثقافة المستهلك قد ساهم في الدفع بالشركات إلى تعزيز حضورها على الإنترنت، بالإضافة إلى الدفع بها إلى تبني مستويات أفضل من الصدق والشفافية حول قضايا مختلفة مثل أخلاقيات الأعمال من حيث ممارسات العمل والتنوع والاحتواء في سياسات التوظيف وقضايا البيئة والمجتمع والصحة في ما يتعلق بالتأثيرات الناتجة عن عملياتها أو عن استخدام منتجاتها أو خدماتها. كما أن من ضمن التغيرات التي شهدها العقد الماضي في ثقافة المستهلك ظهور مفهوم مجتمعات الهوية، وهي مجموعات من الأشخاص الذين يشتركون في وجود مشاعر أو أفكار معينة تجاه مؤسسة أو منتج ما، وهي - من وجهة نظر مارتي نيومير في كتابه قاموس الهوية المؤسسية - شبكات تساهم بشكل كبير في بناء الهوية المؤسسية.

وباعتبار تلك التطورات في جانب المستهلك، فإنه يمكن الوصول إلى بعض ملامح المرحلة القادمة في صناعة الهوية المؤسسية خلال السنوات العشر المقبلة، والتي تشير إلى وجود مسارين قد ينفصلان أو يتقاطعان، أولهما البناء على العلاقة بين المؤسسة وجمهورها من أجل ترسيخ المزيد من القيم والارتباطات والمشاعر حول الهوية بل وحتى إمكانية أن يجتمع الجمهور حولها من أجل قضية أو فكرة أو تأسيس حركة. أما المسار الثاني فهو أن تتجسد الهوية المؤسسية في التجارب البشرية، الأمر الذي يحتم على الشركات تعزيز تجربة المستخدم عبر مختلف نقاط التماس معه، وتوسيعها لتشمل الحواس الخمس، وتكاملها مع التقنية، بالإضافة إلى تفعيل عنصر الحدس البشري في تجربة المستخدم.

**مهتم بالاتصالات الاستراتيجية والهوية المؤسسية