صراع القيم الصاعدة والقيم المتوارية

23 مارس 2024
23 مارس 2024

حالة المجتمعات هي في حقيقتها صراع بين قيم صاعدة وقيم متوارية، وأتجنب هنا استخدام تعبير (قيم هابطة) لسببين؛ أولهما إدارة المعنى وما قد يصطبغ به المفهوم من دلالات سلبية، والثاني لأن القيم في حقيقتها لا تهبط وإنما (تتوارى)؛ أي يتقلص وجودها الاجتماعي في الاعتراف بها من قبل حيز أوسع من أفراد المجتمع؛ وبالتالي التوافق عليها كموجه وحاكم للسلوك الاجتماعي. وتاريخ الاجتماع البشري في حقيقته يتمحور حول القيم؛ فالجماعة الاجتماعية التي تتوافق على قيم مركزية جامعة لسلوكها وتفاعلاتها وعملياتها الاجتماعية إنما تبدو أكثر قدرة على تأسيس تاريخها الاجتماعي وديمومته، وفي المقابل فكلما كان هناك صعود لقيم وتواري لقيم أخرى، يبدأ التوافق الاجتماعي حول القيم يضمحل وبالتالي تهدد العمليات الاجتماعية الأساسية واستقرار البناء الاجتماعي. هذا لا يعني بالطبع أن كل أشكال القيم هي صالحة لكل الأزمان والحقب التاريخية التي يعيشها مجتمع ما؛ ولكن تحقيق التوافق الاجتماعي حول القيم الرئيسية والثابتة هو العامل الحاسم لمركزية القيمة الاجتماعية في المجتمع. وأرى أن الوظيفة الأساسية للمشتغلين في حقول الاجتماع تنظريًا وبحثًا إنما هي في تتبع القيم الصاعدة والقيم المتوارية؛ كيف تنشأ؟ ومن أين تنشأ؟ وما هي العوامل الاجتماعية التي تساعد على انتشارها وشيوعها؟ وما دور القيادات الاجتماعية في الإقناع بها؟ وما مدى إمكانية وجود صراع بين قيمتين إحداهما صاعدة والأخرى متوارية والتبعات من المشكلات والظواهر الاجتماعية التي يمكن أن تنجم عن ذلك الصراع؟ هذا هو صلب الاشتغال الاجتماعي، فالقبض على الظاهرة أو المشكلة أو القضية الاجتماعية إنما يستدعي في المقام الأول مساءلة منظومة القيم وحيزها الاجتماعي الذي كون هذه الحالة، فالقيم يتم بناؤها اجتماعيا بدلا من تطويرها بشكل فردي - كما يقول عالم الاجتماع بيتر بيرغر -المجتمع في عُمان كحال أي مجتمع يعيش هذه الحقيقة الاجتماعية، ففي كل مرحلة من مراحله يشهد حالة من صعود قيم في مقابل تواري نسبي لقيم أخرى. والمراحل التي أتحدث عنها هي لا تقاس في حياة المجتمعات بالزمن وإنما بعدة محكات: الأحداث المفصلية - دور الدولة والسياسات - الصراعات الاجتماعية - درجة الانفتاح على المجتمعات الأخرى - درجة التعرض للتأثير الثقافية - الثقافة المهيمنة والثقافة المنكمشة. هذه المحكات تصنع طبيعة المراحل التي يمر فيها المجتمع. فإذا ركزت الدولة على إيجاد سياسات اقتصادية أو اجتماعية مستجدة كسياسات المشاركة والتخصيص في الخدمات العامة أو السياسات الضريبية أو وجود نظم جديدة للحماية الاجتماعية أو السياسات المتصلة بالتعليم والابتعاث ورفع مستويات المكانة الاجتماعية فإن من الممكن أن توجه هذه السياسات المجتمع لدخول مرحلة جديدة في تاريخه الاجتماعي، وكل مرحلة من المراحل تشكل بناء جديدًا للقيم الاجتماعية، ومن هنا تأتي أدوار المؤسسات الاجتماعية في محاولة (الضبط الاجتماعي) في مهمتها للإبقاء على القيم المقبولة اجتماعيًا، ومحاولة تحييد القيم التي قد تمس نسيج المجتمع أو اتفاقه العام، أو ديمومته الاجتماعية والتاريخية.

واحدة من القيم الصاعدة في المجتمع هي «التمحور حول الشهرة»، وتداعيات هذه القيمة ليست فقط في سيطرة مجموعة من الفاعلين على مواقع التواصل الاجتماعي على حيز اهتمامات ورأي المجتمع فحسب، وإنما في تشكيل معان جديدة للقيمة الاجتماعية، قد يستمع بعض فئات المجتمع لهذا الفاعل ويتبنى وجهة نظره والمعلومات التي يوردها أكثر من الاستماع للمؤسسات الرسمية؛ وبالتالي تتوجه بوصلة الثقة من المؤسسات إلى الفعل الفردي، وقد تكون الشهرة في ذاتها (طموحًا اجتماعيًا) يبتغى بكافة الوسائل، وقد تقوض الأنماط التقليدية لصنع المكانة الاجتماعية بما في ذلك التعليم الجيد والشهادات العليا في مقابل الطرق اليسيرة لصنعها بالوصول إلى (الشهرة) أو لنقل (الفاعلية) لضبط المصطلح. وقد يغدو الظهور الاجتماعي المبني على أسس الحكمة، والموقع العلمي، والإنجاز العام لا معنى له في مقابل السبل والوسائل المستجدة للوصول إلى (الشهرة). وهنا لنوضح أمرًا مهمًا وهو في أننا لسنا ضد فكرة وجود فئة تلقت القبول الاجتماعي من خلال المنصات الاجتماعية واستطاعت أن توجد لها حيزًا من الانتشار والتأثير، وإنما لابد من التوقف حول فكرة (التمحور حول الشهرة)؛ والتي قد توجه اهتمام الكثير من الناشئة تحديدًا نحو هذا المسلك. وهذه القيمة لا يمكن اليوم كبحها، ولكن في تقديرنا يمكن إعادة توجيهها، فالمؤسسات الاجتماعية مطالبة اليوم بإبراز منجز العلم والمساهمة الاجتماعية الحقيقية، والمساهمين في حقول الإبداع والفكر والثقافة، وتسويق المبتكرات وروادها، وتعزيز فعل العلماء والمفكرين في المجتمع، وتوسيع المساحات والمنابر الاجتماعية التي تحتضنهم وتسوقهم وتعلي قيمتهم الاجتماعية. ومن ثم فإن المجتمع بإرثه، وأنماط وتجربته يستطيع التمييز والاختيار بين من يضع على رأس وجاهة الرأي والحكمة.

هذا نموذج لقيم صاعدة قد تتصارع مع قيم بدأت تتوارى، وتقوض عمل الكثير من المؤسسات الاجتماعية، ويمكن أن نسوق تداعيات هذا المثال على قيم صاعدة أخرى كتوسع النزعات الاستهلاكية المدفوع بالميل نحو المطابقة الاجتماعية، وتجزئة المهام التربوية وتفويضها، وتراجع دور الحكمة الاجتماعية في حل الخلافات البينية والاجتماعية. مثل هذا القيم مركزية لظهور ظواهر أو مشكلات أو قضايا اجتماعية لعدة أسباب أهمها: أن المجتمعات تحتاج إلى حيز زمني معقول لقبول القيم الجديدة، وأن التوافق الاجتماعي حول ظهور أو تواري قيمة ما من الصعب هندسته اجتماعيًا، وثالثًا أن الاختلاف على القيمة الاجتماعية قد يظهر في أصغر الوحدات الاجتماعية (الأسرة). ومن هنا فإننا ندعو المشتغلين في حقل العلوم الاجتماعية إلى التفكير الأفقي في القيم وفي مرجعيتها وتحولاتها، وأسباب نشوء بعضها وتواري أخرى، ليشكل كل ذلك مدخلًا لفهم حركة المجتمع وظواهره. ففي قناعتنا أن الانشغال بتجزئة الظواهر والمشكلات وتحييدها دون مرجعياتها القيمية قد يكون عملا جيدا في حينه، لكنه لا يثمر بالضرورة فهمًا موسعًا لحيز الحركة الاجتماعية.

مبارك الحمداني مهتم بقضايا علم الاجتماع والتحولات المجتمعية في سلطنة عمان