شهر رمضان.. عبادة وصحة ورياضة روحية

22 مارس 2023
22 مارس 2023

عندما يقترب شهر رمضان المبارك، نرى الفرحة والسعادة على الوجوه في الأمكنة العامة، وخاصة في الأسواق واستعداد الناس لهذا الشهر، وهو التأهب لاستقبال هذا الشهر الفضيل، وهذا الفرح والسرور بصيام هذا الشهر له طابعه وروحه وأيامه الخاصة، التي بقيت في ذاكرة كل من عايش هذا الشهر وأسعد بصيامه ولياليه، ولهذا الشهر دوافعه الأخرى، حيث إن الصائمين يقومون بإسهام آخر، دافعه فعل الخير والبذل بصورة اختيارية وليست مفروضة ضمن الصيام كفريضة، بهدف التصدق والبذل والعطاء، إنما هذا يعد من روح القيم التي انغرست في قلوب ووجدان المسلمين مع هذه الشعيرة الإسلامية، وهذه بلا شك سر من أسرار هذا الشهر، الذي يفرح له الناس ويسعدون به، في الوقت الذي أنهم يمتنعون عن الأكل والشراب لساعات طويلة، مع أن بعض فصول السنة تشتد فيه الحرارة، وكنت منذ فترة أتحدث مع بعض الأصدقاء، وأقول لهم تخيلوا أنكم تمتنعون عن الأكل والشراب، في غير عبادة فريضة الصيام أو الصيام التطوعي، كيف تكون نفسياتكم مع هذا الامتناع؟ سنجد هذا الامتناع أننا قد لا نطيقه لساعات قليلة، ولا نتحمله كثيرا، ونحن نتعود على شرب الشاي أو القهوة، في أوقات يومية وكأنها عادة ثابتة لعقود، أو الفطور الصباحي اليومي المعتاد، ولذلك روحانية هذا الشهر والامتناع عن الأكل والشراب، شيء قد لا يمكن تحليله أو تقييمه بالمعايير المادية الصرفة. وهذه الطاعة والامتناع عن الشهوات، تجسد الامتثال والطاعة لله عز وجل بهذه الفريضة المهمة والعظيمة في حياة المسلمين، واستجابة لها، وهذا الصيام والاعتناء بأيامه والاهتمام به -وتلك حكمة إلهية- إذ إن في هذا الصيام الكثير من الخير والبركة والصحة، كما يعطي المسلم الكثير من المعاني والدروس الخيّرية التي تجعل الناس يستقبلون هذا الشهر بهمة وعزيمة للعبادة، وقراءة القرآن، وفعل الخير في جوانب كثيرة للناس.

ويذكر أحد المسؤولين بمكتب الإعلام بمحافظة ظفار، أن الشركة الألمانية التي تم الاتفاق معها على إقامة محطة صلالة للتلفزيون في عام 1974 أن الفنيين بالشركة الألمانية، بعد انتهاء العمل بالمحطة وافتتاح القناة رسميا، بقوا عدة أعوام في إدارة وتأهيل الشباب الذين انضموا لهذه المحطة التلفزيونية، وفي إحدى السنوات من شهر رمضان، رأوا كل العمانيين، وبعض العاملين من المسلمين صائمين، ولم يصدقوا في البداية أنهم يمتنعون عن الأكل والشرب، وربما يقولون ذلك مداراة عن الناس في الظاهر، لكنهم لا يلتزمون وفق تصورهم، واعتبروا ذلك صعبا بحكم ما اعتادوه هم في الغرب وطبيعة حياتهم ومعيشتهم، وبحكم أنهم لم يتعودوا ذلك، لكنهم عندما تأكد لهم من خلال المعايشة اليومية، بما لا يدع مجالا للشك، اتفقوا مع الزملاء العمانيين بالقناة التلفزيونية في أحد الأيام، أن بعضهم أراد الصيام ليجربوا هذا الأمر الذي يرونه صعب التحمل، فصاموا فعلا، لكنهم كادوا أن يفطروا قبل أذان المغرب من شدة التعب، ووصفوهم في حالة نفسية صعبة بالنسبة لهم، وكأنهم في تلك الليلة التي صاموا فيها وقعوا في عذاب شديد من التعب من الإمساك عن الأكل والشراب، فالقضية هي فطرة الله سبحانه وتعالى التي فطر الناس عليها، وجعلها أياما سعيدة عند المسلم، وأصبحت جزءا من حياتهم، بل ويفرحون ويسعدون بهذه الأيام التي يمتنعون فيها عن الأكل والشراب في هذا الشهر الفضيل.

ولا شك أن هذه الفريضة العظيمة عند المسلمين، لا تعني أن الحرمان من الأكل والشراب في هذا الشهر هدف دون غايات أخرى كبيرة ونبيلة للمسلم، بل أن هذا الصيام له أبعاد ومرام أخرى، تتجسد فيه قيم ومعان عديدة، منها تذكر معاناة الفقراء والمعدمين، وفي روح العطاء والجهاد بالنفس والمال والوقت عند المسلم، وأعظم الانتصارات التي حدثت في الصدر الأول من الإسلام، كانت في شهر رمضان، إلى جانب أن الامتناع عن الأكل والشراب، هو صحة وتربية وطاعة، وتغرس في المؤمن قيمة روح الالتزام، باعتباره من الأسس الدافعة للتحضر والتقدم في حياة الأمم، ولذلك فإن هذا الصيام يعد من الإيجابيات التي تسهم في بناء الفرد والجماعة، لما لهذه من فوائد نفسية وجسدية واجتماعية، وهذا ما جعل أيامه ولياليه عند المسلمين سعيدة وجميلة لا ينساها في حياته، ومن هنا نجد المسلم الحريص على صيامه وقيامه، يسعد بذلك وليست شقاء وعذابا له، وهذا بلا شك من أسرار هذا الشهر كما قلنا آنفا، ومن هنا نرى تمسك المسلمين وإقبالهم عليه بحب وفرح بأيامه، هو الخيرية الإيمانية التي تنعكس على السلوك، ولذلك نجد أن الإسلام حبّب إلى الناس الصيام، حتى في الأيام الأخرى تطوعا لما له من آثار إيجابية على الشخص، إلى جانب الثواب الذي سيناله من الطاعات العديدة في هذا الشهر.

ويذكر العلامة والأديب المعروف الشيخ علي الطنطاوي، عن التأثير الكبير في نفوس المسلمين لرمضان، عندما يدخل هذا الشهر بأيام قليلة، كيف يتم الاستعداد له والإقبال عليه، وحتى بعض الناس غير المتدينين الملتزمين: «إذا سمع مدافع رمضان تاب وأناب إلى الله، ونزع نفسه الآثمة واستبدل بها نفسا زكية متعبدة، كما ينزع ثوبَه الوسخ ويستبدل به ثوبا نظيفا. والبيوت التي كان يسودها الخصام تتحول في رمضان إلى دور أمن وسلام، والمدينة تصير كلها أسرة واحدة، أو «مدرسة داخلية»، يأكل الناس فيها في وقت واحد، وينامون في وقت واحد، ويقومون في وقت واحد». والحقيقة أن شهر رمضان في الأمس، لا يمكن مقارنته برمضان اليوم، وهذه يتفق عليه الجميع لأسباب عديدة، أولا: إن مرحلة الطفولة التي أشرنا إليها تختزل كل الذكريات الطيبة، وتجعل تلك الفترة الماضية أزهى الفترات وأسعدها لأن تلك المرحلة اليافعة لا يمكن أن نقارنها بأي فترة أخرى مهما كانت الفترة الصعبة.. ومع أنه -ابن هذا العصرـ يعيش في فترة رغدة وميسورة ولكنه لا يقارنها بأيامه في الفترة الماضية -مع صعوبتها- لأنها حياة كانت سهلة وبسيطة بلا كدر أو مثبطات أو غيرها.

ثانياً: إن الحياة بالأمس كانت سهلة وبسيطة -كما قلنا- والناس كانت تعيش بسعادة مع بعضها البعض لبساطة الحياة في ذلك الوقت، فكل ثلاث أسر أو أكثر تعيش مع بعضها مع روح الألفة والمحبة.. إلخ، أما اليوم فإن الحياة العصرية تعقدت وأصبحت أكثر جدية بسبب الظروف الجديدة وأعبائها على الناس ـ والكثير من الجوانب الطيبة والسلوكيات الحميدة تراجعت قليلا لهذا السبب ـ حتى اللقاءات سابقا كانت ميسرة على الرغم من قلة المواصلات أو انعدامها، إذا ما أردنا الدقة بالنسبة للكثير من المجتمعات العربية، والآن عندما تقابل صديقا في الشارع أو مناسبة معينة وتسأله: أين أنت؟ يقول لك: المحبة في القلب، كيف المحبة في القلب؟! كلام بلا مضمون لتبرير قلة اللقاءات.. لكنها تعقيدات ومؤثرات الحياة المعاصرة اليوم، أن اللقاءات صارت تختفي مع الأيام، وشهر رمضان كان أكثر الشهور صلة بين الناس مع بعضهم البعض، فالأيام الرمضانية تحقق الكثير من الإيجابيات الحميدة والصلة الطيبة بين أفراد المجتمع.

ويرى العلامة السيد محمد حسين فضل الله، أن الصوم «وسيلة من وسائل الإسلام لتحقيق أهدافه وغاياته. ومن أعظم أهداف الإسلام تربية الإرادة.. أن يملك الإنسان أن يقول نعم، وأن يقول لا، عندما تدهمه شهوته، أو تدعوه عادته أو يسخره ظالم أو مستهتر لخدمة أغراضه وشهواته.. أن يكون حرا في حياته فلا تستعبده رغبة، ولا تقهره شهوة، ولا يملك عليه مصيره إنسان ـ أيا كان ذلك الإنسان.. أن يكون سيد نفسه، يملك أن يريد وألا يريد.

ووظيفة الإرادة في حياتنا هي وظيفة الضابط الذي يكبح جماح الغريزة ويخفف من غلواء الحيوانية النهمة التي تعيش في عروقنا ودمائنا، فتستثير شهواتنا وغرائزنا. وكان لا بدّ للإسلام من سبل وطرق عملية لتربية هذه الإرادة ورياضتها؟». عندما وعينا على الحياة والناس والمجتمع في مدينة صلالة، كان ذلك في النصف الثاني من ستينيات القرن الماضي بمدينة صلالة، وجدنا ذلك الاهتمام الكبير والفرحة الغامرة والسعادة غير المتكلفة بقدوم شهر رمضان، والاستعداد لإعداد وجبات خاصة، لا يتم إعدادها إلا في هذا الشهر المبارك، على الرغم من أن الحياة في ذلك الوقت كانت بسيطة والمدينة تعيش في فترة صعبة قبل النهضة العمانية الحديثة، لكن على الرغم من تلك الظروف إلا أن رمضان لا يمر مرور الكرام كالشهور الأخرى.