زيارة الأسد لمسقط.. وجبل الجليد العماني النشط !!

27 فبراير 2023
27 فبراير 2023

من المعروف أن تحركات السياسة، وحساباتها وخطواتها غير العلنية، والعلنية، ليست تحركات تحكمها قوانين الفيزياء التقليدية، ومنها « إن الخط المستقيم هو أقرب مسافة بين نقطتين »، ففي غابة السياسة بتشابكاتها ودروبها الفرعية تظل الجوانب الخفية وغير العلنية أكثر قيمة وأهمية، وتظل الجهود والتوافقات غير المعلنة شديدة التأثير، في فتح النوافذ وتوصيل الخيوط بين الأطراف المعنية، خاصة في المراحل التحضيرية للخطوات التي يتم الإعداد المتأني لها من جانب تلك الأطراف، ولعل ذلك يفسر ما قد تحمله بعض التحركات من معان قد يشعر البعض معها بالدهشة أو المفاجأة، قياسا بما يجري على السطح بالنسبة لقضية ما في وقت معين.

وإذا كانت الزلازل المدمرة التي ضربت سوريا وتركيا، وما زالت توابعها مستمرة، قد شكلت صدمة لما ترتب عليها من خسائر ضخمة، فإن التضامن والتكافل العربي والإسلامي يشكل أقرب وأسرع خطوات التخفيف من بعض آثار المعاناة. ومع إدراك أن لقاءات القمة بين القادة تحتاج إلى كثير من الوقت للإعداد والتحضير، فإنه لم يكن غريبا أن تشكل القمة العمانية ـ السورية بين حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم وفخامة الرئيس السوري بشار الأسد حدثا جاذبا للانتباه على كل المستويات، وإلى حد شكّل ويشكّل في الواقع اختراقا بالغ الأهمية على صعيد العلاقات السورية العربية بوجه خاص، والعلاقات العربية العربية بوجه عام، والتي باتت في حاجة إلى تحرك جاد وفعال وقادر على انتشالها من الحفر وعوامل التدهور المباشرة وغير المباشرة، التي تعاني منها، وهي عوامل متراكمة ومتجددة أيضا للأسف. ومن جانب آخر فإن حقيقة وجود وانتشار الشعور العربي العام على مستوى المنطقة، بأنه آن الأوان لأن تنتهي الحالة المزرية القائمة على الأقل في بعض مستويات وممارسات العلاقات العربية - بما في ذلك العلاقات بين الحكومات والشعوب الشقيقة - هو ما يفسر الترحيب الشعبي العربي الواسع النطاق ليس فقط عمانيا وسوريا ولكن على الصعيد العربي الأوسع، مع بعض الاستثناءات معروفة الأسباب. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة باختصار شديد إلى ما يلي: أولا، إنه برغم آلام الزلازل وشعور التقصير العربي والإقليمي والدولي كذلك في مساعدة الشعب السوري لمواجهة ذلك، فإن وصول الرئيس السوري إلى مسقط بعد نحو أسبوع فقط من الزلزال المدمر ومحادثاته مع جلالة السلطان المعظم، بما في ذلك عقد اجتماع منفرد بين القائدين، أكد ليس فقط أهمية القمة وما تم تناوله خلالها من ناحية، وقطع الطريق أمام محاولات وقحة للادعاء بأن الرئيس السوري حاول استثمار الزلزال من أجل إعادة تقديم نفسه على المستوى العربي، وهو ما روجت له أوساط صهيونية غربية في محاولة للإساءة إلى الرئيس السوري وللعلاقات العمانية السورية، ولعل ما يدحض ذلك تماما أن زيارة بهذا المستوى تتطلب إعدادا مكثفا ومتعدد الجوانب على مدى عدة أشهر. يضاف إلى ذلك أن القمة العمانية السورية هي الأولى بين الدولتين منذ نحو عشر سنوات،عندما قررت الجامعة العربية مقاطعة سوريا، ومن ثم فهي قمة زاخرة بالموضوعات التي تهم الدولتين والشعبين الشقيقين. ولا يقلل من ذلك أن الاتصالات العمانية السورية مستمرة ومتواصلة على مدى السنوات الماضية، وعلى مستوى كبار المسؤولين بمن فيهم وزراء الخارجية، ومعروف أن السلطنة هي الدولة العربية الوحيدة التي لم تغلق سفارتها في دمشق ولم تقطع علاقاتها مع سوريا الشقيقة، وهذا ديدنها في علاقاتها مع الإشقاء على مدى العقود الخمسة الماضية.

ثانيا، إنه من منطلق إدراك القيادة العمانية وإيمانها العميق بأهمية وضرورة استعادة التضامن العربي وبناء العلاقات بين الأشقاء على أسس راسخة، معلنة ومتفق عليها لتحقيق مصالحها المشتركة والمتبادلة من ناحية، ومن منطلق إدراك السلطنة لقيمة سوريا كدولة عربية شقيقة لم تدخر وسعا في العمل لصالح الدول الشقيقة في مختلف الظروف من ناحية ثانية، فإن السلطنة لم تتردد في الدعوة لعودة سوريا إلى مكانها وسط أشقائها في جامعة الدول العربية، بل والتأكيد أحيانا على أن قرار مقاطعة سوريا لم يكن صحيحا ولم يفد لا سوريا ولا القضايا ولا العلاقات العربية، لأنه فتح المجال أمام تصورات وممارسات كانت بعيدة لسنوات طويلة عن ممارسات العلاقات العربية العربية وما يحكمها من قواعد وحدود دنيا تبخرت أمام تصور البعض إمكانية التلاعب بمقدرات دول عربية راسخة مثل سوريا، حتى لو تعثرت في بعض الفترات.

يضاف إلى ذلك أنه يمكن القول بأن القمة العمانية السورية تشكل في الواقع اختراقا عمليا ومرحبا به عربيا في اتجاه التهيئة لعودة سوريا إلى مكانها في جامعة الدول العربية، ومعروف أن دمشق كانت الأكثر تحمسا بين الدول السبع المؤسسة للجامعة ولتقوية دورها منذ مشاورات تأسيسها، وبعد إعلانها عام 1945. ومن المفارقات المؤسفة أن هناك من يزايد على سوريا، أيا كانت المبررات أو صياغة المواقف وتغليفها لتغطية ما لا ينبغي إعلانه أو الحديث عنه. ومع ذلك فإنه من المتوقع - في ظل الظروف الراهنة - أن تتزايد الدعوة والعمل من أجل الدفع في اتجاه عودة سوريا إلى مقعدها في جامعة الدول العربية وحتى يلتئم عقد الدول العربية وتتهيأ الأجواء العربية لعلاقات أفضل بين الأشقاء وهو ما تحتاجه الدول والشعوب العربية اليوم قبل الغد. وبينما أكد جلالة السلطان المعظم على أن « سوريا دولة عربية شقيقة ونحن نتطلع إلى أن تعود علاقاتها مع كل الدول العربية إلى سياقها الطبيعي». فإن البيان السوري حول الزيارة قال إن الرئيس السوري شكر جلالة السلطان « على مساعدات الإغاثة، وأن الشكر الأكبر هو لوقوف عمان إلى جانب سوريا خلال الحرب الأهلية » وأن الأسد اعتبر أن « عمان حافظت دوما على سياستها المتوازنة ومصداقيتها وأن المنطقة الآن بحاجة أكثر إلى دور عمان بما يخدم مصالح شعوبها من أجل تعزيز العلاقات بين الدول العربية على أساس من الاحترام المتبادل وعدم التدخل في الشؤون الداخلية». ثالثا: إن الحديث عن عودة سوريا إلى الجامعة العربية - وهو ما دعت إليه الأردن السبت الماضي - لا يزال جزئيا ومختلطا بخلافات عربية متعددة، وأحيانا لا تمت لسوريا بصلة وهذه أمور معروفة في السياسة العربية. إلا أن سلطنة عمان توفرت لها، بحكم قناعاتها ومواقفها ومبادئ سياساتها المعلنة والصريحة مع الأشقاء والأصدقاء، قدرة على العمل مع كل الأطراف تقريبا، بل وكسب ثقتها وتعاونها بما يخدم العلاقات الثنائية وقضايا السلام والاستقرار. وبينما استفادت وتستفيد سلطنة عمان من قدرتها على الكتمان في إدارة علاقاتها وتعزيز دورها الإيجابي لصالحها وصالح المنطقة من حولها، فإنها تدير شبكة علاقاتها خليجيا وعربيا وإقليميا ودوليا وفق نمط أقرب إلى جبل الجليد الذي يختفي الجزء الأكبر منه تحت الماء ولا يظهر إلا جزء محدود من قمته. ومن ثم فإنه لا يمكن النظر إلى القمة العمانية السورية كحدث منفرد أو منفصل، لأنه في الواقع حدث له امتداداته المختلفة بشكل مباشر وغير مباشر مع العديد من القضايا الخليجية والعربية والدولية، فبينما أشار وزير خارجية إيران إلى زيارة لجلالة السلطان المعظم لطهران وإلى « أخبار جيدة » حول المفاوضات النووية يحملها جلالته، فإنه قد تم الإعلان عن إقامة علاقات دبلوماسية بين السلطنة والفاتيكان، قبل أيام، كما قام ميخائيل يوجدانوف مبعوث الرئيس الروسي إلى الشرق الأوسط وإفريقيا ونائب وزير الخارجية بزيارة مسقط، وبالتزامن مع ذلك قامت وزيرة الثقافة المصرية بزيارة مسقط. كما تم الإعلان عن فتح الأجواء العمانية أمام كل الناقلات الجوية التي تستوفي الشروط العمانية للمرور وفق شروط الاتفاقيات الدولية المنظمة لذلك، ويعني ذلك ببساطة أن سلطنة عمان تدير شبكة علاقاتها بما يخدم مصالحها وبما يخفف أية ضغوط قد تفكر بعض الأطراف في ممارستها لسبب أو لآخر وهو ما يعزز سياسات السلطنة ودورها الإيجابي النشط والمتعدد الجوانب وإدارة علاقاتها وفق قناعاتها الذاتية ومصالحها الوطنية.