روسيا وتركيا وخريطة الغاز في شرق المتوسط !!

24 أكتوبر 2022
24 أكتوبر 2022

في الوقت الذي تتواصل فيه معاناة الدول الأوروبية ومخاوفها بشأن إمدادات الغاز، خاصة في الأشهر القادمة، بعد أن تضاءلت الإمدادات الروسية بسبب العقوبات الأوروبية على روسيا وإمدادات عدد من الدول الأوروبية لأوكرانيا بأسلحة أكثر تطورا وحجما نتيجة الضغوط الأمريكية، فإن التسريب الذي حدث بفعل عمل تخريبي في خطي نقل الغاز من روسيا إلى شرق ألمانيا – نورد ستريم 1 و2 - في 26 سبتمبر الماضي، قد زاد من حمى البحث والتنقيب عن النفط والغاز في مياه شرق البحر الأبيض المتوسط بوجه خاص وفي مختلف مناطق العالم بوجه عام، أملا في الاستفادة من الأزمة الأوروبية وتعويض أي جزء ممكن من الإمدادات الروسية لأوروبا، والتي تشكل نحو 40 % من احتياجاتها، ومن المؤكد أن حمى البحث والتنقيب عن النفط والغاز واستخراجهما تثير المنافسات والصراعات، ومن ثم إمكانية المواجهة المسلحة بين الدول التي تتداخل أو تتقاطع حدودها البحرية، والتي لم يتم تحديد معظمها حتى الآن، وتزيد المطامع ومحاولات مد النفوذ في مياه البحر المتوسط من مخاطر الصراع فيها ومن أجلها، بكل ما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها ما يلي:

أولا، إنه في حين يشكل البحر الأبيض المتوسط موقعا استراتيجيا بالغ الأهمية يربط بين آسيا وأوروبا وإفريقيا وينفتح على المحيط الأطلنطي والعالم الجديد من ورائه، فإن منطقة شرق المتوسط لديها احتياطيات تقدر بنحو 3455 مليار متر مكعب من الغاز الطبيعي ونحو 1.7 مليار برميل من النفط حسب تقديرات هيئة المساحة الأمريكية عام 2010 وهو حجم إمكانيات يثير لعاب كل الدول المشاطئة لمياه البحر المتوسط، وكل القوى الطامعة في استغلاله من خارجها. وقد انعكس ذلك بوضوح ليس فقط في استكشاف عدد من حقول الغاز والمسارعة في عملية تحديد الحدود البحرية بين بعض الدول المعنية، ولكن أيضا في التنازع على الحدود البحرية، ومحاولات مد المنطقة الاقتصادية لبعض الدول إلى أبعد مسافة ممكنة وبالمخالفة للقانون الدولي للبحار، وكذلك الاحتكاك المسلح أو التهديد به، كما يحدث بين تركيا واليونان وبين تركيا وقبرص وبين إسرائيل ولبنان، على سبيل المثال. ويعد اتفاق تحديد الحدود البحرية الجنوبية بين لبنان وإسرائيل في 4 /10 /2022 آخر الخطوات في هذا المجال حتى الآن.

من جانب آخر، فإن إنشاء «منتدى غاز شرق المتوسط » في يناير 2019 ومقره في القاهرة كان خطوة شديدة الأهمية لتعزيز التعاون بين الدول الأعضاء فيه (مصر واليونان وقبرص وفلسطين والأردن وإيطاليا وفرنسا وإسرائيل ويشارك الاتحاد الأوروبي وأمريكا كمراقبين دائمين) وكذلك سعيا لإنشاء سوق إقليمية للغاز وللحفاظ على الموارد الكربونية وتنميتها. وقد لعبت القاهرة دورا بارزا في إنشاء المنتدى وتحويله إلى منظمة دولية، عبر تعاونها مع اليونان وقبرص والدول الأخرى الأعضاء، خاصة أنها تتطلع إلى جعل مصر مركزا إقليميا لتسييل وتصدير الغاز الطبيعي، إذ إنه تتوفر لها الإمكانات والبنية الأساسية من محطات تسييل وتخزين وخطوط نقل وتصدير للقيام بذلك. غير أن الخلافات المصرية واليونانية مع تركيا حول ليبيا وقضايا ثنائية أخرى حال دون انضمامها لعضوية المنتدى وأثار معارضة تركيا ومشاكستها له خلال الفترة الماضية وزاد من ذلك اتفاقية تحديد الحدود البحرية بين تركيا وليبيا عام 2020 والاتفاقيات الأخرى اللاحقة التي عارضتها مصر واليونان وقبرص لأسباب متفاوتة ومعروفة.

ثانيا، إنه ليس من المبالغة في شيء القول بأن خريطة الغاز في شرق البحر المتوسط سوف يطرأ عليها تغيرات غير قليلة في الفترة القادمة، بكل ما يمكن أن يترتب على ذلك من نتائج وفرص وأضرار ولو نسبية أيضا، وذلك بسبب الاقتراح الذي طرحه الرئيس الروسي بوتين في 13 أكتوبر الجاري خلال لقائه مع الرئيس التركي على هامش القمة السادسة لمؤتمر التفاعل وإجراءات بناء الثقة في آسيا «سيكا» في كازاخستان.

فتحت تأثير عملية التخريب التي جرت في خطي نورد ستريم 1 و2 الروسيين إلى ألمانيا الشهر الماضي، ورغبة من بوتين في تأمين صادرات الغاز الروسية إلى أوروبا وغيرها بشكل أكبر، ومكافأة لتركيا لوساطتها في تسهيل صادرات القمح الأوكرانية وفي قضايا أخرى من ناحية، وربما للضغط على أطراف أخرى في شرق المتوسط من ناحية ثانية، قال بوتين لأردوغان إن تركيا « تعد أوثق شريك لنقل الغاز» وإن إمدادات الغاز من روسيا إلى تركيا تجري بشكل كامل. ومستعدون لبناء مركز كبير للغاز في تركيا وتوزيعه على الدول الأخرى». وأضاف بوتين «اتفقنا مع غاز بروم -الروسية-: لبناء نظام جديد لنقل الغاز إلى أوروبا عبر تركيا وأن السيل التركي يعمل بنجاح رغم محاولات تفجيره». وفي ظل تطلع أردوغان إلى زيادة دور تركيا في نقل وتجارة الغاز في المنطقة من ناحية، وزيادة قدرتها على تصدير ونقل الغاز إلى أوروبا والاستفادة المادية والسياسية من ذلك في العلاقات مع أوروبا في الحاضر والمستقبل من ناحية ثانية، فإن أردوغان تلقف الأمر بسرعة وتحرك بشكل فوري، حيث ذكرت محطة ( ان تي في) الإخبارية التركية يوم 14 أكتوبر الجاري، أي بعد 24 ساعة فقط من العرض الروسي، أن الرئيس التركي أمر وزير الطاقة التركي « بالعمل على بناء مركز للغاز في تركيا» ونقلت المحطة عنه قوله « إن الدولتين ستبدآن فورا العمل على مقترح بوتين لنقل الغاز الروسي إلى أوروبا ولن يكون هناك انتظار». والمؤكد أن سرعة الاستجابة والتحرك التركي والروسي لبناء مركز روسي كبير في تركيا لنقل الغاز إلى أوروبا ودول أخرى تعبر عن الاهتمام الكبير من جانب موسكو وأنقرة بإيجاد بديل يقلل من الاعتماد على خطي نورد ستريم 1 و2 في المستقبل. والأكثر أهمية من ذلك أن الرئيس الروسي أشار إلى أن هذا المركز لن يقتصر على مجرد نقل الغاز ولكن سيكون له دور في تحديد أسعار الغاز أيضا وهو ما يعني دورا للمركز على صعيد تجارة الغاز على المستوى الدولي. ولا يضارع سرعة الاستجابة تلك إلا سرعة إسرائيل ولبنان في الموافقة والتصديق الرسمي في البلدين على اتفاق تحديد الحدود البحرية بينهما في الرابع من الشهر الجاري.

ثالثا، إنه بغض النظر عن الجدل بين أنصار ومعارضي الرئيس التركي حول سياساته، وهو شأن داخلي تركي، فإنه يمكن القول إن الرئيس أردوغان الذي أعلن عزمه الترشح للرئاسة في الانتخابات العامة والرئاسية التركية التي ستجرى في 18 / 6 / 2023 هو الرابح الأكبر، فتركيا تمد أوكرانيا بالطائرات المسيرة «بيرقدار» من ناحية، وتبذل مساعي وساطة بين روسيا وأنقرة للتفاوض بينهما، وقامت بدور إيجابي فيما يتصل بتسهيل صادرات القمح الأوكرانية من خلالها من ناحية ثانية، وعززت علاقتها ووجودها في ليبيا من خلال العلاقة مع حكومة الدبيبة من ناحية ثالثة، وتسعى بشكل ملحوظ لتطوير علاقاتها مع إسرائيل، حيث تم تبادل السفراء بين الدولتين في الآونة الأخيرة، كما جرت اتصالات مع سوريا من ناحية رابعة، ويأتي إنشاء المركز الروسي لنقل الغاز إلى أوروبا ليعزز بشكل كبير الدور الإقليمي التركي بوجه عام وفي نقل وتجارة وشبكة الغاز في شرق المتوسط بوجه خاص، ومن شأن ذلك أن يعزز فرص أردوغان وحزبه في الانتخابات الرئاسية والبرلمانية القادمة. وفي ظل المواقف والسياسات التركية المعروفة والمعلنة، فإن أوضاع شبكة الغاز في شرق المتوسط ستتأثر بالضرورة، بكل ما يترتب على ذلك من نتائج وردود أفعال من غير المضمون أن تظل كلها سلمية أو بدون أضرار لبعض الأطراف.