رسميا: انتهت حقبة ما بعد الحرب الباردة
ترجمة: أحمد شافعي -
شهد العالم العديد من نقاط التحول المحتملة التي أشارت إلى نهاية حقبة ما بعد الحرب الباردة: ومنها الأزمة المالية العالمية، والربيع العربي، ووباء «كوفيد-19». والآن مع إطلاق التنافس بين القوى العظمى شرارة حرب كبيرة في القارة الأوربية، وصلنا إلى ذلك.
الغرب الآن بعيد البعد كله عن صورته الوردية في تسعينيات القرن الماضي، حينما صاغت أمريكا تحالفا عالميا لخوض حرب الخليج القصيرة المظفرة، وحينما بدا أن أمريكا سوف تساعد -بما لها من قوة ونفوذ- على ازدهار الليبرالية والديمقراطية في العالم كله. اليوم، أمريكا في مواجهة واقع قاس في سياسات القوة: صراع لم نستطع أنْ نحول دون وقوعه، وخطر شديد الواقعية للتصعيد العسكري.
تشن القوات الروسية هجوما كامل النطاق على أوكرانيا من اتجاهات عديدة، بعد أن احتار صناع السياسة الأمريكيون طويلا في البحث عن سبل لمنع هذه اللحظة، فبات لزاما عليهم الآن أن يجيبوا على سؤال مختلف هو: كيف ينبغي للولايات المتحدة أن تتكيف مع هذا الواقع الجديد؟
ولهذا التحدي جانبان: جانب فوري وهو منع حرب أوكرانيا من الانتقال بحيث تصبح حربًا أوروبية أوسع، وجانب بعيد المدى، وهو الاستجابة لبيئة أمنية جديدة.
لقد جاءت الحرب على أوكرانيا مباغتة بقدر ما كانت متوقعة، بعد أسابيع من تصعيد التوترات، أعلن فلاديمير بوتين قيامه بـ«عملية عسكرية خاصة» لـ«نزع سلاح» أوكرانيا. وترددت أصوات انفجارات في العاصمة كييف، مع تقدم القوات الروسية إلى ثاني أضخم المدن الأوكرانية بما يعني أن قوله ذلك لم يكن تفاخرا أجوف.
ولدينا إدراك جيد لما هو قادم: ضربات جوية مستمرة على البنية الأساسية العسكرية، وغزو بري، ومحاولات محتملة لخلع القيادة الأوكرانية، ولا يرجح أن ينتهي هذا الصراع بخير على أوكرانيا: فهي ببساطة أقل عددا وعدة.
والرد الغربي أيضا متوقع، لقد فشل التهديد بعقوبات هائلة -منها المفروض على مؤسسات مالية كبرى وعلى التبادل التجاري الروسي بل وعلى المقربين من الرئيس بوتين نفسه- في ردع العدوان. وهذه العقوبات تفرض حاليا، لكن لا يجدر بنا أن نتوهم أنها سوف تبدل حسابات الرئيس بوتين.
للإنصاف، هناك بعض الخيارات السياسية الجيدة الأخرى. الدبلوماسية منهكة. وإدارة بايدن استبعدت بحكمة إرسال قوات أمريكية إلى أوكرانيا. لكن المخاطر كبيرة، وتقتضي من الولايات المتحدة ردا منسقا ومتماسكا وقويا.
لابد أولا أن تحاول إدارة بايدن تهدئة انتشار آثار الصراع من أوكرانيا إلى جيرانها، ومن المؤكد أننا سنشهد تدفقات للاجئين إلى أوروبا الغربية، إذ تقدر المعلومات الاستخبارية أن ما يصل إلى خمسة ملايين من الأوكرانيين سوف يهربون. يجب أن تعرض واشنطن مساعدات إنسانية، ودعما ماليا للدول الأوربية ووضعا وقائيا مؤقتا للأوكرانيين الراغبين في السفر إلى الولايات المتحدة. ومع أن الهجرة كانت منطقة خلاف جوهرية بين دول الاتحاد الأوربي، فالتقاعس الآن لن يضع فقط ملايين اللاجئين في شرك جحيم قانوني، بل إنه سيحدث صدعا بين الدول الأوروبية في وقت يحتاجون فيه أمس الاحتياج إلى التوحد.
هناك أيضا الخطر الجسيم المتمثل في العدوى الاقتصادية. فروسيا مصدر كبير من مصادر السلع، ويتوقع مراقبو الأسواق ارتفاع معدل التضخم وانخفاض النمو عالميا (مع احتمال وقوع اضطرابات أكثر حدة في أوروبا).
ولكي تواجه الولايات المتحدة هذه التحديات، فإنها تحتاج إلى الوحدة الأوروبية، وإلا فسيكون في غاية الصعوبة أن نحافظ على استمرار العقوبات على روسيا وتحقيق رد منسق من الناتو على المزيد من العدوان الروسي.
والأهم أمنيا هو الحيلولة دون انتشار الصراع إلى ما وراء حدود أوكرانيا. فمن شأن الانتشار أن يشكك في التزام أمريكا تجاه الناتو بموجب المادة الخامسة التي تنص على أن الهجوم على عضو في الحلف هو هجوم على جميع أعضائه، ويحتمل أن يؤدي إلى صراع طويل دموي لم نر مثيلا له منذ الحرب العالمية الثانية. وقد نصل إلى هذا التصعيد الخطير بسبب أي شيء يتراوح بين هجمات إلكترونية وصدام عفوي بين قوات روسية وقوات تابعة للناتو.
قد يستوجب سيناريو احتدام الهجمات الإلكترونية اتزانا وتعقلا في استعمال الصنعة الاقتصادية الأمريكية للرد، بالموازنة الدقيقة بين العقوبات التأديبية وعدم التسبب في انهيار كامل للاقتصاد الروسي. وبديل ذلك -أي الدخول في دوامة طويلة كريهة من الحرب الاقتصادية- قد يؤدي بالاقتصاد العالمي إلى الانهيار.
ولاجتناب كارثة ناجمة عن مناوشات عفوية لابد من تنسيق وثيق مع الحلفاء الأوربيين في ما يتعلق بالخطوات التالية في أوكرانيا نفسها. وحلفاء الولايات المتحدة في البلطيق وأوروبا الشرقية أحرص على التعاون الدفاعي وتوفير الأسلحة لأوكرانيا، وقد يبدون ميلا إلى النظر في تسليح أو تدريب قوة حرب عصابات أوكرانية لمقاومة الاحتلال، وقد يؤدي هذا إلى توسيع القتال خارج حدوده الحالية فيستدرج الناتو. يجب أن تشتد إدارة بايدن في مقاومة هذه الخطوات وتوضيح أن بنود مادة الناتو الخامسة لن تنطبق في مثل هذه الحالات.
ثانيا، لابد أن تنظر الإدارة في تبعات هذا الصراع الأوسع على الأمن الأوربي. فالمرجح أن هذه الحرب سوف تنتهي بخط عسكري جديد يقسم أوروبا، فاصلا روسيا والدول التابعة لها عن دول الناتو. وستكون هذه تذكرة مشهودة بخطر دائم الحضور لنشوب صراع عسكري أو نووي، بما يزيد احتمال الصدامات أو المناوشات التي تنحدر إلى حرب شاملة.
في الحقيقة، في ظل سيطرة روسيا الآن عمليا على بيلاروسيا وسيطرتها المحتملة على قسم ما من أوكرانيا، لابد أن يعزز الناتو دفاعاته العسكرية الشرقية الدائمة. ويجب أن يأتي كثير من هذا التعزيز من الدول الأوربية أنفسها، نظرا لأن وضع أمريكا الاستراتيجي وتركيزها المتزايد على الصين سوف يحدان مما تستطيع أمريكا -أو يجب عليها- أن تلتزم به. لقد حان الوقت للقيادات الأوربية -مثل إيمانويل ماكرون الذي طالما تكلم عن قدرة أوربا على الاستقلال الذاتي الاستراتيجي- أن تظهر أنها جادة.
كما أنه من الضروري أيضا، في ضوء أخطار التصعيد والمجازفات النووية أن تحتفظ الإدارة بعلاقات دبلوماسية مع موسكو بينما تبحث عن سبل لتخفيف أسوأ السيناريوهات من خلال إجراءات الحد من التسلح على سبيل المثال.
إن هجوم الرئيس بوتين على أوكرانيا يمثل من نواح كثيرة فشلا للنهج الغربي في التعامل مع الأمن الأوروبي على مدى الأعوام الثلاثين الماضية، والذي جعل توسع الناتو ونشر الديمقراطية أولوية أسبق من اعتبارات الدفاع الجماعي. والآن لابد للولايات المتحدة وحلفائها من خوض هذا الواقع الجديد دونما تعثر عفوي في حرب ملتهبة مع روسيا.
ربما لم يوجز أحد في واشنطن جوهر لحظة حرب ما بعد الحرب الباردة الراهنة مثلما أوجزتها مادلين أولبرايت التي وصفت أمريكا بأنها «البلد الذي لا غنى عنه». تلك كانت إيجازا لسياسة خارجية أمريكية توسعية تحويلية رامية إلى حل كل مشكلة عالمية.
إن الحرب الجارية حاليا في أوروبا تمثل علامة على نهاية عصر، وتظهر للأمريكيين وللعالم أن القوة الأمريكية ليست قوة مطلقة. ولابد أن تمثل هذه الحرب أيضا علامة على نقطة تحول بالنسبة للولايات المتحدة، تعكس فهمنا لوجودنا مرة أخرى في عالم يمكن فيه لقوى عظمى أخرى أن تحبط الطموحات الأمريكية وحيث يمثل التصعيد النووي خطرا لا ينتهي.
إيما آشفورد زميلة مركز سكاوكروفت للاستراتيجية والأمن في المجلس الأطلنطي ومؤلفة كتاب يصدر قريبا بعنوان «النفط والدولة والحرب».
«خدمة نيويورك تايمز»
