دور علم السلوك في تعزيز التواصل - 2

19 أكتوبر 2021
19 أكتوبر 2021

تطرقت هذه المساحة مسبقا إلى مفهوم علم السلوك Behavioral Science - أو اقتصاديات السلوك Behavioral Economics حسب ما هو شائع - وإلى أي مدى يمكنه أن يتكامل مع التواصل بل ويعزز من ممارساته بما يحقق أفضل النتائج. إن أهم ما يميز علم السلوك عن كثير من العلوم الأخرى هو أنه علم تطبيقي لا يعتد بنظرياته إلا بعد أن يتم تجريبها على أرض الواقع بحيث تكتسب لاحقا الصفة المميزة لتحيزات علم السلوك Biases والتي تترجم لاحقا إلى ما يعرف بالممارسات المثبتة بالأدلة Evidence-based Practices.

وبالرغم من وجود الجدلية حول تلك التجارب الواقعية وما إذا كانت تنطبق على مجتمعات غير تلك التي تم إجراء التجارب فيها باعتبار الأبعاد الثقافية والدينية والسياسية والنفسية وغيرها، إلا أن ذلك يمكن أن يتيح المجال لإعادة إجراء تلك التجارب خارج نطاق البيئة الأصلية من أجل أن يتم الاعتماد عليها كممارسات تبنى على أساسها القرارات سواء على مستوى الدول أو المؤسسات أو الشركات. لذا وكخلاصة يمكن أن تبنى على أساس تلك الجدلية؛ فإن من المهم بالنسبة للجهات القائمة على تبني ونشر ثقافة استخدام علم السلوك في صياغة السياسات وصنع القرار أن تتولى مهمة إجراء تطبيقات عملية تجريبية على النظريات والتحيزات الأكثر شيوعا من أجل بناء سجل من الممارسات التي تتناسب مع المجتمعات المحلية وتصبح أكثر قابلية للتطبيق وتحقيق النتائج. كما تكمن أهمية إجراء التجارب المحلية في تعزيز تقبل الجهات التي قد تحتاج في سياساتها أو خدماتها إلى تطبيق مبادئ علم السلوك.

وفي ذات السياق تشير خلاصات تجارب الاستشاريين في علم السلوك إلى أن هناك عددا من الاعتبارات التي ينبغي اتباعها من أجل تحقيق الاستفادة القصوى من نظريات وتحيزات علم السلوك في خدمة التواصل؛ أبرزها حقيقة أن السياق الذي يتم فيه إجراء التجربة الواقعية له دور كبير في تشكيل النتائج التي تفرزها تلك التجارب، لذا فإن من المهم أن تكون البيئة التجريبية للنظريات أقرب ما يكون إلى الواقع الذي تعيشه عينة الأشخاص الخاضعة للتجربة. بالإضافة لذلك فإن من الاعتبارات المهمة أن يدرك القائمون على صياغة السياسات والقرارات أن التغيير المنشود في سلوك الأشخاص قد لا يتحقق بمجرد التحدث إلى الجمهور المستهدف وتزويده بالمعلومة أو حتى إقناعه؛ ذلك لأن تغيير السلوك يرتبط في كثير من الأحيان بالعقل اللاواعي Subconscious وهو ما يمكن أن تعالجه ممارسات علم السلوك. أما الاعتبار الثالث فيتلخص في أهمية التوسع في إيجاد عدد من الفرضيات التي يتم تجريبها على العينات المستهدفة من أجل الوصول إلى الدليل الذي يثبت صحة الممارسة، بالإضافة إلى ضرورة استخدام طرق مختلفة أثناء تجريب تلك الفرضيات.

إن أهمية تكامل علم السلوك مع التواصل تتجسد في أن يتعدى دوره مستوى الإقناع ليصل إلى جعل الخيارات أكثر سهولة، ويمكن الاستشهاد في هذا السياق بالمثال الكلاسيكي في حملات التوعية بالتدخين والتي تتلخص معظم رسائلها في محاولة إقناع المدخنين بضرورة الإقلاع عن التدخين؛ سواء عبر الرسائل الإيجابية المتمثلة في الفوائد التي يجنيها الشخص بعد توقفه عن التدخين مثل تعزيز الصحة أو توفير المال أو تجنب تأثيرات التدخين مثل الروائح وتصبغات الأسنان، أو الرسائل السلبية التي تبين جوانب خطورة التدخين مثل أمراض الجهاز التنفسي والقلب أو الوفاة المبكرة. لكن ماذا لو علمنا بأن جميع تلك المعلومات تحظى بمستوى عال من الإلمام من قبل فئة المدخنين، بل وأن الكثير منهم مقتنع بضرورة توقفه عن التدخين لمعرفتهم بالنتائج الإيجابية التي تترتب عن ذلك؟

في أستراليا كانت تلك قناعة وزارة الصحة بعد بذل مختلف الجهود والموارد في سبيل تشجيع أكبر عدد ممكن على الإقلاع عن التدخين، ولذلك قررت الوزارة توظيف نظريات علم السلوك من أجل جعل خيار الإقلاع سهلا. وبعد إجراء العديد من البحوث الاجتماعية والاستعانة بخبراء في علم السلوك والتواصل، خرجت الوزارة إلى الملأ بتطبيق للهواتف الذكية يسمى «رفيقي للإقلاع My QuitBuddy» والذي يحتوي وظائف مختلفة مثل اختيار موعد البدء في الإقلاع عن التدخين، وتحديد الأهداف ومستوى الدعم الذي يحتاجه الشخص أثناء مرحلة الإقلاع، وتحديد الأوقات التي يتوقع الشخص أن يكون فيها ضعيفا أمام التدخين ليتم التواصل معه من قبل مختصين أثناءها من أجل مواصلة التزامه، ووجود محطات زمنية تذكر الشخص بالمشوار الذي قطعه في سبيل الإقلاع، وكذلك إمكانية دعوة الأقارب والأصدقاء لتنزيل التطبيق وبدء رحلة إقلاعهم عن التدخين. ويقول ريتشارد تشاتاواي أحد أعضاء الفريق في الحكومة الأسترالية الذين عملوا على هذا المشروع أن هذه التجربة جعلت الفريق يدرك أن هناك طرقا مختلفة عن المألوف يمكن أن تشكل فارقا كبيرا في تحقيق النتائج المرجوة، والحصول على بيانات ومعلومات دقيقة، وكذلك التأثير في سلوك الناس نحو الأفضل. بينما بينت الشركة التي قامت بتطوير ذلك التطبيق بأنها ارتكزت على عامل «التلعيب Gamification» من أجل جعل التطبيق أكثر تفاعلية وتشجيعا على الاستخدام المتكرر.

إن النظر إلى التواصل - في ظل اتجاه علم السلوك إلى النضج في مستوى تشكله والانتشار في مستوى استخدامه وتطبيق نظرياته - يجعلنا نصل إلى خلاصة أن دور التواصل يجب أن لا يقتصر على إيصال الرسالة والإقناع كما كان يعتقد في فترات سابقة؛ بل أنه - وبارتباطه بعلم السلوك - يمكن أن يتعدى ذلك إلى تحقيق التأثير وإحداث التغيير في سلوك الأفراد والمجتمعات. ويمكن من أجل إثبات ذلك القول الرجوع إلى أحد المبادئ الأساسية التي يقوم عليها علم السلوك والتي تقول بأن البشر عادة ما يبحثون عن أقصر الطرق في اتخاذ قراراتهم من أجل تقليل العبء الذهني الذي قد يتحملونه في حال إعمال العقل بشكل مطلق من أجل اتخاذ القرارات الحياتية.

* مهتم بالاتصالات الاستراتيجية والهوية المؤسسية