دور الهوية المؤسسية في تعزيز الحياة

29 مارس 2022
29 مارس 2022

لطالما ارتبط علم وممارسات الهوية المؤسسية Branding بأنه أبرز مظاهر ثقافة الاستهلاك وهيمنة الرأسمالية ومد العولمة، إضافة إلى الاتهامات التي تكال بين حين وآخر إلى كبريات الشركات وخصوصا فيما يتعلق بسعيها النهم نحو الربحية والتوسع وممارساتها التي تتنافى مع المبادئ الأخلاقية والبيئية والإنسانية في سبيل ذلك، إلى جانب الربط الذي يمكن أن يحدث بين مجالات أعمالها وبعض الأجندات السياسية والاقتصادية والاجتماعية. وبالرغم من أن تلك المفاهيم والقناعات تتمتع بنطاق واسع من القبول والانتشار - مع أننا لا نزال نستخدم منتجات تلك الشركات ونستفيد من خدماتها - إلا أنه قد يكون من المفيد محاولة إلقاء الضوء على ما يقدمه علم الهوية المؤسسية من خير للبشرية من أجل تعظيمه والبناء عليه سعيا لتعزيز الحياة.

لكن قبل التعمق في ذلك فإن من المهم فهم الكيفية التي تطور بها علم الهوية المؤسسية عبر القرون وخصوصا من منتصف القرن السابع عشر الميلادي الذي شهد ظهور ممارسات الهوية المؤسسية بشكل قريب مما نعرفه اليوم. لقد استخدم البشر علامات بصرية مميزة ليقوموا بوسمها على قطعان مواشيهم كرمز للملكية، وهي الممارسة التي انتقلت إلى عالم التجارة، خصوصا في زمن كانت أشكال وألوان أكياس الحبوب والتوابل متماثلة تماما ولا يوجد ما يميز بضاعة عن غيرها سوى رواية الباعة في الأسواق أو وكلاء الاستيراد في الموانئ أو أصحاب البضاعة أنفسهم، حيث بدأ التجار بوضع علامات ورموز معينة على أكياس الحبوب والتوابل تعبيرا عن ملكيتهم لها ومن أجل نَسْبِ البضاعة إليهم.

ومع التوسع في تلك الممارسة وتفاوت مستويات الجودة بين أنواع البضائع، بات الناس يميزون البضاعة ذات الجودة العالية برموزها المميزة، الأمر الذي قاد إلى تطور مفهوم الهوية المؤسسية لتكون رمزا للجودة. ومع تطور أساليب التجارة وقنوات التواصل والإعلام عبر الزمن، شهدت ممارسات الهوية المؤسسية هي الأخرى تطورا بذات الزخم لترتبط بمفهوم "الحملات الإعلانية" التي ترسخ معاني محددة حول المؤسسة أو المنتج، ثم إلى مفهوم "هوية المؤسسة" Identity التي تعطي المؤسسة شخصية وارتباطات وقيما إضافة إلى وجود رؤية ورسالة تسعى المؤسسة إلى تحقيقهما عبر عملياتها، وصولا إلى نشأة مفهوم "الهوية المؤسسية كمنصة" الذي رافق التقدم في تقنيات الاتصالات والمعلومات الذي نعيشه حاليا، بحيث تتفاعل الهوية المؤسسية مع جمهورها عبر تلك التقنيات.

ولكن هل يعني ذلك التطور أن كل مرحلة من مراحله طمست سابقتها؟ قد لا يكون هو الحال بالضرورة؛ حيث يعتمد الناس بشكل كبير على تطبيقات الهوية المؤسسية في التعرف على المنتجات الموثوقة أو ذات الجودة العالية أو المنتجات الوطنية أو ذات بلد المنشأ الآمن أو حتى المنتجات ذات الأثر البيئي أو الاجتماعي المنخفض، وذلك نتيجة تطور منظومة القيم التي تحدد السلوك الاستهلاكي للناس عموما، إلى جانب ازدهار الحياة بمختلف مناحيها وتنوع الخيارات بما يلبي مختلف الأذواق والتفضيلات. إن من أبرز أمثلة توظيف تطبيقات الهوية المؤسسية في ذلك العلامات المميزة التي تدل على أن تغلف منتج ما تم تصنيعه بإعادة تدوير مخلفات، وعلامة الجودة التي تعني أن منتجا ما مستوفٍ لاشتراطات ومعايير محددة، وشعارات بلد المنشأ التي تسعى لترويج المنتجات الوطنية أو البناء على السمعة الإيجابية لبلد ما من أجل زيادة مبيعات المنتجات الصادرة منه، والإشارة على مشروب غازي بنكهة البرتقال أو الحمضيات بأنه خيار صحي مقارنة بمشروبات أخرى من ذات الشركة الأم بنكهة الكولا.

وحيث أن العمل المجتمعي والتطوعي بات قرينا لتطور الشعوب وازدهارها، فإن مجال الجمعيات الخيرية ومؤسسات المجتمع المدني هو الآخر بات يعتمد على تطبيقات الهوية المؤسسية في بقاع مختلفة من العالم. حيث تذكر بعض تقارير المؤسسات المهتمة بالعمل الخيري أن مؤسسة خيرية مثل ماكميلان Macmillan البريطانية بدأت في التركيز على هويتها وصورتها الذهنية منذ العام 2006، وقامت بالتعاقد مع وكالات مرموقة في مجال الهوية المؤسسية والإعلان في سبيل ذلك؛ وكان نتيجة تغيير هويتها المؤسسية ارتفاع نسبة وعي الجمهور بالمؤسسة من 31 بالمائة في العام 2006 إلى 65 بالمائة في العام 2011، إضافة إلى تحقيق إيرادات مرتفعة من التبرعات نتيجة ارتفاع نسبة وعي الجمهور والتطور الملحوظ في هوية المؤسسة التي تحتل المرتبة الأولى في مؤشر مؤسسة YouGov البحثية لأبرز المؤسسات الخيرية من حيث الهوية المؤسسية.

أما فيما يتعلق بالحركات المدنية Civil Movements فيمكن القول إنها ترتبط منذ زمن بعيد بممارسات الهوية المؤسسية، بل إنه يمكن اعتبارها وقودا يغذي تلك الحركات ويكسبها الجماهيرية والانتشار والتعاطف بزخم متسارع، وأبرز تلك النماذج مارتن لوثر كنج وعبارته الشهيرة "لدي حلم" I Have A Dream. وبالرغم من جدلية مدى النفع أو الضرر الذي قد تسببه الحركات المدنية على المجتمعات والدول - مثل مقاومة العنصرية في جانب والترويج للشذوذ الجنسي في جانب آخر - إلا أن ذلك الارتباط يتضح جليا في تبني بعض أكبر الشركات لتلك الحركات. حيث يمكن الاستشهاد بحملة شركة المسلتزمات الرياضية Nike بالشراكة مع لاعب كرة القدم الأمريكي كولين كايبرنيك الذي أثار الجدل عندما كان يجثو على ركبة واحدة مع عزف النشيد الوطني الأمريكي قائلا بأنه "لا يمكنه الوقوف بفخر أمام علم دولة ظالمة لذوي البشرة السمراء" تعبيرا عن مقاومته للعنصرية. كما تعتبر حملة "الحيوات السمراء مهمة" Black Lives Matter إحدى أبرز تجليات دور ممارسات الهوية المؤسسية في إكساب الحراك المجتمعي الزخم والانتشار، وخصوصا بعد حادثة مقتل الأمريكي جورج فلويد على يد الشرطة وهو يردد عبارة "لا أستطيع التنفس" I Can't Breathe التي أصبحت هي الأخرى رمزا لمناهضة العنصرية. وبالرغم من مرور ما يقارب السبعين سنة بين حملة مارتن لوثر كينج ومقتل جورج فلويد، لا تزال الحملات المناهضة للعنصرية بشتى أنواعها مستمرة حول العالم، حيث تغذي القضية الفلسطينية حماس الشباب العربي بين حين وآخر برموز وعبارات حتى لو كان مصدرها الكيان الإسرائيلي نفسه مثل عبارة "أنا عَقَبَة"، كما يبرع سكان هونج كونج في إيجاد رموز معبرة في حراكهم المجتمعي مثل المظلة الصفراء التي لم تكن منتشرة في ميادين التظاهر من أجل الديمقراطية فحسب، بل تم رفعها بصمت من قبل أحد الحضور في أرفع المؤتمرات السياسية للبلاد.

• بدر الهنائي مهتم بالاتصالات الاستراتيجية والهوية المؤسسية