خيط رفيع بين الرمز والالتزام !!

23 يناير 2023
23 يناير 2023

في بعض الأحيان، وفي ظروف متغيرة، قد تقترن أحداث ورموز مختلفة مع بعضها بشكل أو بآخر، وهو ما يمكن أن يضع الشخص، على المستوى الفردي، في حالة أقرب إلى الاستنفار الذهني، أو على الأقل الشغف لمعرفة ما قد يربط بين الأحداث، غير أن الأمر يختلف بالتأكيد بالنسبة للدول، عنه بالنسبة للأفراد، وذلك انطلاقا من الحقيقة الواقعية أو الجدلية المتمثلة في أن الدول تحدد وتدير سياساتها وخياراتها ومصالحها استنادا إلى أرضية أكثر موضوعية وحكمة، وبناء على تقييمات تنطلق من مصالحها الوطنية التي يمكن تحديد مختلف جوانبها وأبعادها، بل واحتمالاتها أيضا.

وفي هذا الإطار، وبينما تدخل سلطنة عمان العام الرابع من مسيرة نهضتها الحديثة المتجددة بقيادة حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم، حيث احتفلت قبل أيام بالذكرى الثالثة لتولي جلالته مقاليد الحكم، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب من أهمها ما يلي:

أولا، إن السنوات الثلاث الماضية، وبرغم طبيعتها الانتقالية على صعيد السياسة العمانية داخليا وخارجيا، باعتبارها مقدمة أو بداية لمرحلة جديدة تجسدها مسيرة التنمية المتجددة المديدة، وبرغم ما صاحبها من تحديات، كان بعضها ملحا أيضا، كانت في الواقع بمثابة إعداد وتجهيز لأرضية أكثر صلابة تستند إليها مسيرة النهضة العمانية المتجددة في انطلاقها إلى المستقبل الواعد، وفي مواصلتها لما أثبتته الأحداث والتطورات من قيمة وفاعلية ورشادة لسياسات وخيارات تم تبنيها، وتعديل ما ينبغي تعديله أو إصلاحه لكي يتواءم مع الحاضر بمتغيراته المختلفة، من ناحية، ومع متطلبات المستقبل واحتمالاته المختلفة وفق الآفاق التي كشفت عنها الرؤية المستقبلية " عمان 2040 " التي يتم العمل على ترجمة أولوياتها وبرامجها التنموية، اقتصاديا واجتماعيا وسياسيا كذلك من ناحية ثانية، مع استيعاب ما تفرضه الأحداث والتطورات من تحديات مباشرة وغير مباشرة، مرئية ومستترة، لا مناص من التعامل معها وتطويعها بما يخدم الأهداف الوطنية.

وفي هذا الإطار فإنه في حين بدأ العام الرابع من مسيرة النهضة العمانية المتجددة بحدث رمزي تجسد بوضوح في فوز سلطنة عمان بالمركز الثاني في بطولة الخليج العربي الخامسة والعشرين لكرة القدم، التي أقيمت مؤخرا في مدينة البصرة بالعراق الشقيق، والتي اعتبرت في جانب منها تعبيرا عن عودة بلاد الرافدين إلى إطارها الخليجي العربي بعد نحو ربع قرن لم يشارك العراق خلالها في هذه البطولة لأسباب معروفة، فإن العام الرابع لتولي جلالة السلطان هيثم بن طارق مقاليد الحكم، يشهد كذلك، وبشكل متزامن، نشاطا سياسيا واضحا وملموسا، وعلى أعلى المستويات، ويعبر ذلك بوضوح ليس فقط عن سياسات السلطنة وما تتسم به من استقرار ونشاط، ولكن أيضا ما تتميز به من إرادة الإسهام القوي والفعال، دوما وتحت كل الظروف، في كل جهد خير ومفيد يمكن أن يعود على شعوب المنطقة ودولها بالخير والازدهار، بما في ذلك العمل على حل المشكلات والخلافات بالطرق السلمية، والتهيئة لتجاوز أية حروب أو مواجهات جرت وامتدت في السنوات الأخيرة لأسباب مختلفة.

ومن هذا المنطلق يكتسب فوز السلطنة بالمركز الثاني في بطولة الخليج العربي الخامسة والعشرين لكرة القدم دلالة تتجاوز كرة القدم ومنافساتها إلى فضاء أوسع تدخل فيه السياسة من أبواب واسعة، وهو ما عبر، ويعبر عن نفسه في جوانب اتضح بعضها بالفعل، ويتضح البعض الآخر خلال الفترة القادمة وبشكل واقعي أبعاد الالتزام و قوة الإرادة السياسية العمانية في الإسهام في صنع السلام والاستقرار ولكل دول وشعوب المنطقة طالما التزمت بالمبادئ والقوانين والشرعية الدولية، وطالما عملت بإخلاص ونية صادقة لتحقيق المصالح المشتركة والمتبادلة لكل دول وشعوب المنطقة الآن وفي المستقبل، وهذا هو أحد أهم المبادئ الثابتة والراسخة في السياسة العمانية، على امتداد اكثر من نصف قرن، وقد ساهم فيه جلالة السلطان المعظم ومعالي السيد وزير الخارجية بشكل يومي ومباشر لسنوات عديدة في الفترة الماضية.

ثانيا، ولعل ما يوضح هذا الجانب على نحو بالغ الدلالة أن التحركات السياسية، وبفضاءاتها ومجالاتها الاقتصادية أيضا لم تتوقف عند الاستمرار في الخطوط والجهود والمبادرات التي عملت عليها السلطنة من أجل التقريب بين دول المنطقة والسعي لحل الخلافات، وخاصة في اليمن الشقيق على قاعدة "لا استبعاد ولا استئثار" ولكن بمشاركة كل الأطراف اليمنية، وعلى أساس القواعد المتفق عليها يمنيا ( مخرجات الحوار الوطني ) وخليجيا ( المبادرة الخليجية ) ودوليا (قرارات مجلس الأمن الدولي وخاصة القرار 2216 ) مع العمل دون كلل من أجل التهيئة العملية لتحقيق ذلك على الأرض بالتعاون مع مختلف الأطراف اليمنية ومع الأشقاء في مجلس التعاون ومع الدول الشقيقة والصديقة الأخرى المعنية بالوضع في اليمن، والصبر لتجاوز أية عقبات، أو تحفظات لسبب أو لآخر. وبالصبر والصدق والوضوح والالتزام العماني والإرادة السياسية القوية والأمينة، يشهد عام 2023 بوادر طيبة ومبشرة على صعيد التقارب السعودي الإيراني من ناحية، وهو ما أشار إليه وزير الخارجية الإيراني أمير عبداللهيان بوضوح خلال زيارته الأخيرة لبيروت بشأن الاتفاق السعودي الإيراني على عودة العلاقات الدبلوماسية وعودة السفارات بين البلدين بعد قطيعة استمرت منذ عام 2011، وكذلك تجسير الفجوة وتقليل الخلافات بين المملكة العربية السعودية الشقيقة وبين الحوثيين وما تردد حول اتصالات ولقاء عقد بين الجانبين السعودي والحوثي من ناحية ثانية، هذا فضلا عن الاتصالات العمانية مع أطراف عدة بما في ذلك الزيارة التي قام بها المبعوث الأممي إلى اليمن هانز جروندبرج إلى السلطنة قبل أيام والتأكيد على تحقيق السلام بمشاركة جميع الأطراف اليمنية ودعم المجتمع الدولي وكذلك صمود الهدنة في اليمن. جدير بالذكر أنه ينبغي الإشارة إلى أن النشاط السياسي والدبلوماسي الذي قامت وتقوم به السلطنة على أرفع المستويات، بما في ذلك الزيارات المتبادلة ولقاءات القمة لجلالة السلطان مع قادة المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة وجمهورية مصر العربية ومملكة البحرين والمملكة الأردنية الهاشمية وقطر، وغيرها ومنها اللقاء الأخوي الذي عقد في أبوظبي الأسبوع الماضي، ساهمت وتساهم على نحو فعال في إنجاح الجهود للانتقال بالأوضاع في المنطقة إلى حالة أفضل وأكثر تجاوبا مع تطلعات شعوب المنطقة وتوقها للسلام والاستقرار. وما أشار إليه معالي عبدالسلام المرشدي رئيس جهاز الاستثمار العماني في حديثه لصحيفة "الشرق الاوسط " السعودية قبل أيام بالغ الأهمية والدلالة، خاصة فيما يتصل بالنقلة النوعية في العلاقات العمانية السعودية، وتدخل زيارة قائد القوات البرية السعودية للسلطنة، والتي تزامنت مع احتفالات السلطنة بالذكرى الثالثة لتولي جلالة السلطان المعظم مقاليد الحكم، في هذا الإطار أيضا.

ثالثا: وفي ظل التحركات النشطة التي تشهدها المنطقة والتي تساهم فيها السلطنة، فإنه من الغريب أن يتحدث البعض عن حرب قادمة في المنطقة، وعن استهداف لإيران، بل ويشير البعض إلى سيناريوهات معينة، وبإيحاءات مختلفة تثير قلق الشعوب وتبث الشكوك بين دول المنطقة وهو ما يخدم إسرائيل في المقام الأول. وبالرغم من حملات إسرائيل الدعائية ضد إيران، وهي ليست جديدة، فإن الحديث عن حرب ضد إيران يفتقر إلى الجدية والصواب، ليس فقط لأن واشنطن ليست متحمسة لذلك، ولكن أيضا لأن إسرائيل وواشنطن تخشيان العواقب، وأنهما ليستا متأكدتين من النتائج، أما التلويح بخطورة ما وصلت إليه إيران في مجال تخصيب اليورانيوم وهو نسبة 60 بالمائة، فإنه بمثابة تسويق لما يمكن وصفه بالبعبع الإيراني وهو ما تدركه دول مجلس التعاون والدول العربية، وبالتالي فإن الحرب ضد إيران ليست حتمية، فالقيادات الواعية لا تبحث عن حروب ولكنها تعمل من أجل الاستقرار والسلام والمصالح المشتركة والمتبادلة وهو ما عملت وتعمل السلطنة من أجله.