جيمس برايدل في عالم «أكثر من الإنسان»

28 مارس 2023
28 مارس 2023

حينما سُئل المؤلف والفيلسوف والتقني جيمس برايدل، عن ملخص فكرة كتابه «طرق الوجود: الحيوانات والنباتات والآلات والبحث عن الذكاء الكوكبي»، أجاب: «إن شجرة التطور تحمل العديد من الثمار، والكثير من الزهور، ومن بينها الذكاء، الذي بدلا من أن يوجد في أعلى فروع الشجرة، في الواقع وجدناه قد أزهر في كل مكان». هذه الكلمات الموجزة اختصرت محتوى كتاب جيمس برايدل الذي حقق رواجا كبيرا منذ تدشينه في صيف 2022م، جاء الكتاب نتاج دراسة متعمقة لأشكال العقل، وصلتها بالمستقبل المشترك للبشرية والكائنات الأخرى على حدٍ سواء، فهو يتناول موضوعا دقيقا من الناحية التكنولوجية، وفي الوقت ذاته يطرح فكرا جريئا، وهو استكشاف الأشكال المتعددة والمتفردة من أنماط الذكاء والمعرفة التي تشكل العالم، وتعد ضرورية لبقاء الإنسان وتطوره، إذ يعيد الكتاب طرح أسئلة فلسفية ذات عمق وهي: ماذا يعني أن تكون ذكيا؟ وهل هو شيء خاصٌ بالنوع البشري، أو أنه يتشاركه مع كائنات وجمادات أخرى؟ وما حقيقة الذكاء الاصطناعي؟ وهل سيبقى الصديق والمساند للإنسان، أم أنه اختراع غريب لن يلبث وأن يتفوق على البشر وينافسهم؟ وإذا كان البشر لا يدركون سوى أنواع الذكاء التي اعتادوا وجودها، كيف يمكن للذكاء الآخر أن يزيد أو يكمل أو يتحدى الذكاء البشري؟ أحدث تدشين هذا الكتاب زخما في الوسائط العلمية والفكرية، وفي وسائل الإعلام أيضا، بدا أن كاتبه جيمس برايدل يمثل ظهور جيل جديد ومختلف تمامًا من المفكرين، وفلاسفة دراسات المستقبل، إذ مهّد هذا الكتاب لنشأة مدرسة فكرية حديثة تقوم على نسج خيوطٍ تحليلية لا تُرى عادةً معًا، إذ احتوى الطرح على مسارات غير اعتيادية جمعت علوم الكيمياء والأحياء وتقنية الاتصالات والتاريخ والفلسفة والفنون، من أجل استكشافٍ عميقٍ وأنيقٍ للمعرفة والذكاء كمفهوم أشمل وأكثر اتساعًا، فنجده يتخيل التكنولوجيا كجزء من السلسلة التطورية للوجود البشري والكائنات الأخرى، وأداة لبناء عالم أكثر تفكيرا واستيعابا لأنماطٍ أخرى من الفكر والذكاء، عالمٍ أرحب لكوكب يعيش فيه طيف واسع من الكائناتٍ التي لا تقل ذكاءً عن البشر، وكما أطلق عليه برايدل مصطلح عالم «أكثر من الإنسان»، وتسخير هذا العالم لا يأتي من خلال السياسات والتقنيات الجديدة التي يضعها الفكر البشري لوحده، ولكن أيضًا -وبشكل أساسي- بقوة الأفكار الجديدة التي نستكشفها حينما ندرك قوة الذكاء الآخر.

بدأ الكتاب فصوله الأولى بطرح موضوع العلاقة بين استخدام الذكاء الاصطناعي، وظاهرة تسارع تدهور واستنفاد موارد كوكب الأرض، وأورد أمثلة لأقسام التكنولوجيا العملاقة المسؤولة عن تطوير التقنيات المعرفية، وتطبيقات الذكاء الاصطناعي في تحويل صناعة النفط والغاز، وذلك عن طريق توظيف هذه التقنيات لدعم صناعة القرار الاستراتيجي في تحسين إنتاج مكامن النفط، وفي استكشاف حقول نفطية جديدة، وتقييم الاحتياطيات غير المستغلة، مع الأخذ في الحسبان واقع التحولات الجذرية في سيناريوهات الطاقة البديلة والمتجددة، ومحدودية النفط كمورد غير متجدد، وأن اقتصاديات الاستخراج آخذة أيضا في التغير، مما يفرض الكثير من التحديات على عمالقة صناعات الوقود الأحفوري، إذ يعد الوصول إلى احتياطيات جديدة مهمة غير سهلة، وأن القيام بضخ الاستثمارات المالية الضخمة هو قرار صعب ومحفوف بالمخاطر، وتتطلب القرارات الذكية أدوات ذكية، وهنا يأتي دور الذكاء الاصطناعي الذي يوظف كل تقنياته الحسابية، وخوارزميات التعلم الآلي المتقدمة في تحقيق أقصى استفادة، ولكن مع الإدراك بحتمية العواقب البيئية الكارثية المحتملة.

وهذا يقودنا إلى أهمية خلق أشكال جديدة من التعايش بين الذكاء البشري، والذكاء الاصطناعي، ومختلف أشكال الذكاء على الأرض، مع تعميق البعد الأخلاقي وحس المسؤولية لابتكارات العقل البشري، وفي المجمل فإن الابتكار المسؤول هنا يعنى بالتخطيط المستقبلي للاختراعات والابتكارات ومخرجات الذكاء البشري، من أجل تحييد المخاطر التكنولوجية، وتقليل الصراع بين وهم التفوق البشري وذكاء الآلات، الذي يمكنه أن يفرض حلة من عدم الوضوح في التوقعات، والآثار الاجتماعية، والأخلاقية، والاقتصادية، والبيئية ذات الصلة بالتقدم التكنولوجي، والاختراعات العلمية، ذات التأثير العالي على حياة الإنسان ومستقبل الكوكب.

إن القارئ المتعمق لكتاب جيمس برايدل يلمس بوضوح الرابط التسلسلي بين طرحه هذا عن عالمية الذكاء، وبين كتابه السابق الذي حمل عنوان «العصر المظلم الجديد: التكنولوجيا ونهاية المستقبل»، والذي تناول فيه ما أسماه بالضباب والتعقيد الذي أحدثتهما التكنولوجيا، وأن الثقافة العالمية صارت محاصرة حاليا في حلقة مفرغة من دوامة البيانات والآلات، والقوة الحاسوبية الهائلة التي عطلت الذكاء البشري، وأنواع الذكاء الأخرى، ويأتي كتاب «طرق الوجود» من حيث انتهى كتابه «العصر المظلم الجديد»، ليستكشف عالما كاملا من طرق التفكير الأخرى، والذكاء والكفاءة التي تفوق الأشخاص، أو أجهزة الحاسوب العملاقة الأكثر تقدمًا، والذي يجب على البشرية وتقنياتنا وتقدمها العلمي إيجاد طرق تكافلية للتعايش والتفاعل، وكما عبّر عنها برايدل بكلماته: «باختصار، يجب علينا أن نكتشف بيئةً للتكنولوجيا». يوضح لنا برايدل أن عالم الذكاء المتنوع هو البيئية الحقيقية للبشر والتكنولوجيا، وهي لا تقتصر على البيانات المشفرة في التقنيات التي اخترعها البشر، وهذا يتطلب الكثير من إعادة التخيل للمدى الواسع من التطورات التي يمكن أن يتعلمها بنو البشر من الحيوانات، والنباتات، والكائنات الدقيقة، والأنظمة البيئية بأكملها، إذا نجحوا في إدراك الذكاء الكامن والمختلف في هذه الأنظمة، والخروج من الفهم المحدود حول ماهية الذكاء، والنظر إلى ما وراء أفق الذات البشرية وإبداعاتها، لاستكشاف أنواع مختلفة كثيرة من المعرفة والذكاء الفطري، وحينها ستتعلم البشرية طرح الأسئلة بشكل أعمق، وستمضي مسيرة التطور الإنساني بوتيرة متوازنة.

أما في الفصول الأخيرة من الكتاب، نجد برايدل يعزز طرحه عن إعادة التفكير في فهمنا المحدود للذكاء المتمركز حول الإنسان، فيستعرض أمثلة مدهشة للاكتشافات الحديثة عن ذكاء عالم «أكثر من الإنسان»، حيث بدأ العلم في التعمق في الذكاء غير البشري، ودوره في التوازن البيئي والبنيوي للحياة على الكوكب، مثل ذكاء النباتات في الاستجابة لاقتراب المفترسات، عن طريق ملء أوراقها بالدفاعات الكيميائية؛ وذكاء بعض أنواع الثدييات في التنبؤ بثوران البراكين قبل المجسات وأجهزة المراقبة التي صنعها الذكاء البشري؛ وقوالب الوحل التي يمكن أن تحل مشاكل الكفاءة المكانية بسهولة أكبر من أقوى أجهزة الحاسوب، وتقنيات الذكاء الاصطناعي؛ هذا بالإضافة للعديد من الأشكال المهجورة من «الحوسبة غير التقليدية» للطبيعة ومكوناتها، التي حافظت على الحياة، وعملت جنبا إلى جنب مع «الانتخاب الطبيعي» قبل إمكانية الوصول إلى أشكال الحوسبة المتوفرة في أكثر الأجهزة الحديثة تطورا في حاضرنا.

إن الإسهام الحقيقي لكتاب جيمس برايدل يكمن في قدرته على تأطير الذكاء والمعرفة بشكل يعكس المعنى الحقيقي للموضوعية في التقدم العلمي والاختراعات التكنولوجية، التي تتطلب انتهاج الابتكار المسؤول، وإدراك حقيقة عدم وجود المركزية البشرية في الذكاء والامتياز المعرفي، وهذا يستلزم وضع حدود التنظيم الذاتي بشأن الاستخدام المزدوج للتكنولوجيات الناشئة، وتبنّي التفكير الأخلاقي الواسع في أغراض الذكاء البشري وغير البشري، على اعتبار أن العلوم والتكنولوجيا ليسا أدوات تقنية فحسب، بل هما بوابات للانفتاح والولوج إلى نطاق أوسع من المدخلات المعرفية، من خلال إنشاء مساحات جديدة من الحوار والتكامل والتفاعل مع الذكاء الآخر والابتكار.