تطور المتتاليات الاجتماعية .. بين بناءي البيولوجي والوظيفي

16 مايو 2021
16 مايو 2021

أحمد بن سالم الفلاحي -

ينظر إلى تطور المجتمعات على أنه واحد من أهم الموضوعات في الحياة البشرية؛ على الإطلاق؛ سواء على المستوى العام، أو المستوى الخاص، لأن كلا الطرفين العام والخاص واقعان في مسؤولية نجاح هذا التطور، أو في مواجهة إخفاقاته، وفي النتائج المترتبة على هذا التطور، للوصول بالمجتمعات ككل إلى بر الأمان، فوقوع المجتمع في مآزق التطور له تداعيات خطيرة يدركها كلا الطرفين، ولا أحد يرضى أن ينزلق المجتمع في أي مأزق خطير؛ لأن الجميع سوف يدفع ثمنًا باهظًا، ومن هنا يأتي رسم السياسات السكانية، والبرامج الاجتماعية، المتمخضة عن المشروع التنموي الشامل الكبير؛ لذلك -وبشيء من التركيز- يأتي أيضا إنشاء محاضن التربية عند كلا الطرفين العام والخاص على حد سواء، للإيمان الموجود، بأن لهذه المحاضن أدوارًا محورية في المحافظة على سلامة المجتمع من كل مأزق قد يقع فيه، سواء في جانبه التربوي «السلوك» أو في جانبه الذهني «التفكير» وتراعى هذه المسألة رعاية خاصة، وتسلط عليها أعين الرقيب الأمين، خوف الخروج عن المسارات الآمنة التي يقرها الطرفان للمحافظة على سلامة المجتمع، وأمنه واستقراره، وبلا شك تبذل في ذلك جهودًا كبيرة، وتدفع أموالًا كثيرة، ويعد لها جيوشًا من المختصين في علوم: المعرفة، والتربية، والإرشاد، والتوجيه، للوصول إلى خلاصة مفادها، أن بقاء المجتمعات وتماسكها يكمن في توجيهها نحو المسارات الآمنة المعلوم نتائجها، ولو إلى حد ما من حدود التوقع.

ينقسم تطور المجتمعات؛ كما يرى علماء الاجتماع؛ إلى تطورين مهمين: تطور في البناء؛ والمقصود به البناء العضوي للكائن الحي؛ كما أفهم؛ وهو التطور الذي يمر بمراحل العمر المختلفة، ففي كل مرحلة يشهد الكائن الحي مجموعة من التطورات - أغلبها ذهنية - يستوعب من خلالها الكثير من القيم والعادات، والسلوكيات، وخاصة في المراحل المبكرة، حيث يرى القدوة فيسلك مسالكها المتعددة، والمختلفة، وهذه المرحلة من أخطر مراحل التطور حيث يتم ملء كل الفراغات الذهنية عند هذا الكائن الذي للتو تتفتح مداركه الذهنية، والسيكولوجية، والفسيولوجية، وفي هذه المرحلة بالذات تترسخ قواعد البناء التي سوف تحتل مساحة واسعة من حياة الإنسان، قد تصل إلى أواخر العمر الممتدة لسنوات الإدراك، قبل نكوصه وعودته، حيث مرحلة الضعف والشيبة؛ وهي مراحل الوداع، ومفارقة هذه الحياة الدنيا، حسب رحمة الله وتوفيقه، ثم يأتي التطور الوظيفي، حيث المساهمة المباشرة لهذا الإنسان الفرد في المجتمع الذي يمثله، وهذه المرحلة لا تقل أهمية على سابقتها، بل تمثل نقلة نوعية له، من مرحلة النشأة والتطور الذي لازمته «بنائيا» مرحلة إعادة الكثير من الإنتاج، بما يعبر عن قدرته في استيعاب ما حوله، وتوظيفه بما يخدم مصالحه الخاصة والعامة على حد سواء، وفي هذه المرحلة يتم استجلاب التجارب والخبرات، وعمليات التأثر والتأثير، وتوظيف السلوكيات والقيم، وتبسيط المبادئ العامة على صورة برامج وظيفية داعمة ومعززة لمجموعات الممارسات الوظيفية في حياة الناس والمجتمع على حد سواء، لأن جل القيم والمبادئ الإنسانية لم تأت لتكون «تابوهات» محرمة، تقبل أو ترفض بالجملة، وإنما تحل في عبر فترات الزمن التي تمر بها المجتمعات لتتيح الفرص لإعادة قراءتها، وتوظيفها بما يخدم واقع الناس، ويسهل عليهم ممارساتهم المختلفة في هذه الحياة، فالمسألة ليست سهلة؛ كما هي الرؤية النظرية المجردة؛ في اختلاف قيم ومبادئ للمجتمعات في أي فترة زمنية تكون، صحيح أن التطورات المتلاحقة التي تعيشها المجتمعات تخلق استحقاقات مرحلية، وهذه الاستحقاقات يجب أن تعبر عن زمنها، ومجموعة الظروف التي تعيشها في حينها، ولكن تبقى هناك مبادئ وقيم مرجعية لأي مجتمع يكون، وخاصة المجتمعات ذات الأبعاد الحضارية الأصيلة، التي لا ترتهن عن عوامل زمنية مؤقتة، أو تنجر انجرارًا أعمى نحو مكتسبات مجتمعات لم تبلغ سن الحلم بعد، ففي ذلك إشكالية كبيرة، تقوض أمن المجتمعات، وتزيحها عن مسارات المجتمعات المتمكنة من ذاتها، ومن مشروعها الحضاري العميق، وهذا أمر ليس يسيرًا إطلاقًا.

يجري الحديث كثيرًا عن الشفرة الوراثية للكائن الحي، والمعني به هنا الإنسان، وأثر هذه الشفرة في تحديد سلوكياته، ووظائفه، وقدرته على المحافظة أو التفريط في مكتسباتها منذ المرحلة البنائية، إلى المرحلة الوظيفية، حيث مشروعها المهم والمحوري، وقد استمعت مرة إلى أحد المتخصصين في هذا المجال، الذي نفى أن يكون للشفرة الوراثية ذلك الدور المحوري طوال سنوات حياة الإنسان، وأن هذا الإنسان خاضع في كل ممارساته لظروف البيئة التي يعيش فيها، والاستثناء الوحيد الذي يكون بخلاف ذلك، هو عندما يكون الإنسان خارج دائرة العقل «مجنون» هنا يمكن ألا يتماهى في مجموعة الظروف المحيطة، ويظل كما هو كائن بشري بحالته التي عليها، عندما وجدته قبل عشر سنوات؛ على سبيل المثال؛ ستجده كذلك مع تغير بيولوجي لعدم توفر مجموعة الإشباعات الطبيعية التي يحتاجها أي كائن حي، من الغذاء والدواء، والرعاية الاجتماعية المتنوعة، أما بخلاف هذا الظرف؛ وقد يكون مؤقتا؛ فيظل تطور الفرد متأرجحا، وهذا يحسب على المجتمع ككل.

يمكن النظر؛ هنا؛ إلى صراع الأجيال على أنه خاضع لمفهوم المتتاليات بشقيها الأول؛ الحسابي «الخطي»: وهو الواقع بين حدي التفاعل التقليدي والحديث، ويضم في قائمته مجموعة المجتمعات التي تصنف على أنها مجتمعات تقليدية، وهي التي لم تتحرر كثيرا من كل العوالق المقيدة لحركة نموها الوظيفية، وشقها الثاني؛ «الهندسي «الأسي/ المضاعف»: وهو المستجيب والمتضاعف المباشر غير خاضع لحدي التفاعل، وهذا أكثر خطورة من الآخر، ويضم في قائمته مجموعة المجتمعات التي تصنف على أنها مجتمعات غير تقليدية، وهي المتحررة من كل العوالق المقيدة لحركة نموها الوظيفي، ربما قد يمثل النوع الأول الخطي من الأفراد؛ مثلا؛ من هم فوق الأربعين سنة، بينما يمثل الثاني الأسي الفئة العمرية من هم دون ذلك، حيث تؤثر مجموعة المتغيرات المجتمعية على هذه الفئة تأثيرًا مباشرًا لا يحتاج إلى كثير من المراجعة والتمحيص، والتفكير، وهذه من أصعب فترة العمر على محاضن التربية، بخلاف الفئة الأولى، المتحقق عندها مجموعة من العناصر القادرة على المراجعة والتمحيص والتفكير، ويكون تأثرها بالمحيط تأثرًا محدودًا على حد ما.

في علم الرياضيات؛ كما هو معروف هناك متتاليتان (حسابية وهندسية) فالأولى: تغيرها خطي - جمع وطرح مع العدد السابق - كما يشير التعريف؛ أما الثانية: فتغيرها أسي - نتائج تراكمية مضاعفة - وفق النص الآتي: «في المتتالية الحسابية يكون التغيّر بين الحدود تغيّرًا خطيًّا، أمّا بالنسبة للمتتالية الهندسية فيكون التغيّر بين الحدود أُسيًّا، وفي المتتالية الحسابية يكون مسار التغيّر بين الحدود في اتجاهٍ واحدٍ، أي أنّ حدود المتتالية إما أن تكون متزايدةً أو متناقصةً، بينما في المتتالية الهندسية لا يوجد اتجاهٌ محدّدٌ لتغيّر قيم حدود المتتالية، حيث يمكن أن نجد قيم الحدود تتناقص وتتزايد بشكلٍ متبادلٍ. يمكن توضيح هذا الفرق بين المتتالية الهندسية والمتتالية الحسابية بشكلٍ أكبر من خلال الرسوم البياني» - انتهى النص - حسب: https://www.arageek.com - وعند القياس يجد المتابع أن تطورات المجتمعات لا تكون عند المتتالية الحسابية الأفقية، وإنما عند المتتالية الهندسية؛ لأن تطور المجتمعات، ينظر إليه من أعقد المسائل الاجتماعية على الإطلاق، فالكائن البشري كما هو معروف «حمال أوجه» ففي الوقت الذي تجده يعمل وفق وظائف سلوكية «متطورة» وأضع كلمة التطور بين معكوفين لأنها قابلة للتأويل، ومطاطية المعنى، وبين لحظة وأخرى تجده وفق وظائف سلوكية ضاربة بـ «متطورة» عرض الحائط، وكأن شيئا لم يكن، هذا بخلاف مجموعة المواقف المتناقضة، والشخصيات الانفصامية، تحركه الأهواء والمصالح الذاتية، وتعصف بمواقفه الظروف المستجدة، ومن هنا تأتي مجموعة المواثيق والمعاهدات المكتوبة، وجل المكتسبات في المرحلة البنائية، وكل تعليمات وتوجيهات محاضن التربية، لن تكون حاضرة بالصورة المتوقعة، وإنما يتم توظيفها وفقا لهذا الرؤى المستجدة، في المرحلة الحاضرة التي تستوجب اتخاذ موقف ما.