تدابير السياحة الثقافية

03 مايو 2021
03 مايو 2021

تحتفي (الاستراتيجية العمانية للسياحة 2040) بالثقافة باعتبارها مكونا أساسيا تعتمد عليه في تحقيق أهدافها الاستراتيجية الطموحة؛ فالثقافة العمانية الأصيلة ركيزة تعتمد عليها السياحة بدءا من عادات الترحيب والضيافة مرورا بالجولات السياحية الثقافية والزيارات للأسواق التراثية والمواقع الأثرية والحضارية والصناعات الحرفية وغيرها. لذا فإن الاستراتيجية العمانية للسياحة تركز على «عنصرين من عناصر الاستدامة؛ المجتمعات المحلية والبيئة الطبيعية والثقافية».

إن هذه الاستراتيجية تُقدم رؤية واضحة عن تلك العلاقة بين السياحة والثقافة بوصفهما متلازمان في تحقيق الأهداف الوطنية المنشودة بحلول 2040، الأمر الذي يجعل من (الهُوية الوطنية) أحد أهم الركائز التي تقوم عليها السياحة، وبالتالي فإن هذه العلاقة تنشأ في ظل مجموعة من السياسات والتدابير الوطنية من ناحية والمؤشرات المحددة من ناحية أخرى

إذ تخبرنا الاستراتيجية أن الدمج بين الثقافة والسياحة يزيد من «جاذبية السلطنة كوجهة سياحية، ويدعم هويتها، ويحسِّن تجارب السُيَّاح، لذا فإن السياحة ستروِّج تراث عمان الثقافي، بينما تُحّسِّن في الوقت نفسه من حمايته وتجديده وتفسيره ونشره...».

وإذا كانت الاستراتيجية العمانية للسياحة 2040 قد أقرت بأهمية الثقافة في الترويج السياحي، فإن الثقافة بالتالي ستستفيد من ذلك في حماية التراث الثقافي وتجديده من أجل تحقيق نهج الاستدامة، و«تعظيم التراث والثقافة واستخدامهما بشكل مناسب في ابتكار منتجات وتجارب عمانية أصيلة»– بحسب الاستراتيجية. وإذا كانت هذه الاستراتيجية تقدم مفهوما واسعا وتشاركيا بين قطاعات السياحة ومرتكزاتها المتعددة بتعدد أنواعها، فإن (السياحة الثقافية) تقدم نفسها باعتبارها (تراثا) فقط، ذلك لأن الاستراتيجية ركزت على التراث الثقافي العماني الأصيل بأشكاله المختلفة، وهي في ذلك تعتمد على أصول الهُوية الوطنية العمانية للترويج السياحي والتنمية السياحية المستدامة، وهو أمر لا نختلف على أهميته، إلا أن (السياحة الثقافية) ذات نطاق واسع يشمل تنويعات الثقافة وقدرتها على استقطاب جمهورها على المستوى الداخلي والخارجي.

ولعل المادتين الرابعة والخامسة من (المدونة العالمية لآداب السياحة. من أجل سياحة مستدامة) التي أطلقتها منظمة السياحة العالمية في الأمم المتحدة، تُقران صراحة بتلك العلاقة المتينة التي تربط السياحة بالثقافة؛ ففي المادة الرابعة (السياحة كمستخدم لتراث الإنسانية الثقافي وكمساهم في تعزيزه)، تؤكد على تلك السياسات والنشاطات التي تحترم التراث الثقافي والمحافظة عليه، ودعم صونه وحمايته وإنمائه بما يعزز التنمية السياحية، أما المادة الخامسة (السياحة نشاط نافع للدول والمجتمعات المحلية المضيفة)، فإنها تقدم النهج التخطيطي لإشراك المجتمع بكافة أطيافه في التنمية السياحية، خاصة المشتغلين في الأنواع الثقافية. الأمر الذي يجعل (السياحة الثقافية) ذات آفاق واسعة قادرة على النماء والاستدامة.

لذا فإن السياحة الثقافية تؤسس آفاقا رحبة ليس على مستوى زيادة أعداد السُياح والزوار وحسب بل أيضا على مستوى الإبداع والابتكار وبالتالي ازدهار الصناعات الإبداعية؛ ذلك لأن العلاقة بين السياحة وفنون الفرجة من قبيل المسرح والسينما والأوبرا وغيرها، علاقة وطيدة منذ نشأة هذه الفنون وحتى ازدهارها وتطورها، ولولا هذه العلاقة لما تطورت الأخيرة ووصلت إلى ما هي عليه اليوم، ولهذا فإن القيمة المضافة التي تؤسسها السياحة لهذه الفنون هي قيمة إبداعية أولا، ثم قيم اجتماعية وتربوية واقتصادية، مما يعني أن هذه العلاقة تتأسس في نطاق تشاركي قائم على المصالح الوطنية الأسمى التي تعلو على أية مصلحة مؤسسية.

وعليه فماذا لو تشاركت المؤسسات المعنية بالسياحة مع المؤسسات المعنية بالثقافة في التنظيم والترويج للمعارض الفنية (التصوير الضوئي، أو الفنون التشكيلية، أو المسرح أو الغناء أو الإنشاد...)؟ وماذا لو تم التشارك في تنظيم أسواق دائمة للصناعات الإبداعية المتنوعة في المواقع السياحية المختلفة؟ وغير ذلك من آفاق التشارك والتعاون. إن مثل هذه الشراكات تُقدم الثقافة العمانية المعاصرة برؤية حضارية وبأبعاد أكثر انفتاحا من ناحية وتسهم في السعة الإنتاجية للكوادر البشرية المبدعة في السلطنة.

فإذا كانت إحصائية (الثقافة مشاركة وانتشار 2020) الصادرة عن المركز الوطني للإحصاء والمعلومات تشير إلى ارتفاع أعداد الحضور في المسارح؛ حيث كان حضور العروض المسرحية في عام 2015 (131.500)، وارتفع في عام 2019 إلى (282.693)، مع ارتفاع في حضور الحفلات الغنائية من (72.200) في عام 2015، إلى (317.216) في 2019، إضافة إلى ارتفاع زوار معارض الفنون الجميلة الذي وصل في عام 2019 إلى (16.500)، يشير إلى ازدهار النمو الثقافي الذي يعكس من جهة أخرى النمو السياحي، والذي كان علينا أن نراه في إحصائية أعداد السُياح الذين حضروا هذه العروض وغيرها، لنستطيع بعدها النظر إلى هذه العلاقة التشاركية بشكل جلي، فعلى الرغم من أن هذه العلاقة قائمة بصورة غير ظاهرة من خلال قدرة هذه العروض على الجذب واستقطاب الأفواج من داخل السلطنة وخارجها، ومساهمتها أيضا في الترويج السياحي للسلطنة بشكل عام، إلا أنها لا تُظِهر الجهود التشاركية بين قطبي السياحة الثقافية وإلا لكانت الأرقام الإحصائية مضاعفة إضافة إلى المردود الاقتصادي لهذه التظاهرات الثقافية.

إن مؤشرات نمو السياحة الثقافية لا بد أن ترتكز على إجمالي الأنشطة الثقافية الجاذبة للسياحة الداخلية والخارجية، مما يعني أن الإحصائيات التي تُقدم في هذا المجال عليها أن تكشُف تحقق تلك المؤشرات وفق خطة زمنية واضحة، فتظاهرة ثقافية مهمة من مثل (معرض مسقط الدولي للكتاب) يجب أن لا تكون بمعزل عن خطة التنمية السياحية بل هي أساس من أسسها؛ فهذه التظاهرة تمثل مصدر جذب ليس للسياحة الثقافية المحلية وحسب بل مصدرا للسياحة الثقافية الخارجية أيضا، فتلك الأفواج التي تقصد المعرض من محافظات السلطنة المختلفة، إضافة إلى الأفواج التي تقصده من دول المنطقة وغيرها، يجب أن تكون حاضرة ضمن التخطيط السياحي، وأن تكون السياحة أحد أهم ركائز هذه التظاهرة.

فـ(معرض مسقط الدولي للكتاب) تظاهرة يمكن أن يُستفاد منها على المستوى الوطني السياحي والاقتصادي؛ حيث يمثل من خلال فعالياته وأنشطته قدرة إبداعية وابتكارية هائلة، يمكن توظيفها سياحيا في الترويج للسلطنة من ناحية وجذب السُياح من ناحية أخرى؛ فقد أظهرت الإحصائية التي قدمها إصدار (عمان 2020) الصادر عن وزارة الإعلام أن في الدورة الخامسة والعشرين للمعرض، بلغ عدد زوار المعرض (706.000)، وأن عدد حفلات التوقيع بلغ (297) والفعاليات الثقافية المصاحبة بلغت (117) فعالية، وأن الأنشطة الخاصة بالطفل بلغت (137)، وأن الدول المشاركة بلغ عددها (31) دولة.

والحال أن هذه الإحصائيات وغيرها من الإحصاءات الخاصة بمناشط هذه التظاهرة الثقافية تمثل أساسا للسياحة الثقافية التي ترتكز على قوة الإبداع وقدرته على الجذب السياحي، فعلى الرغم من أن الإحصائية لا تقدم أيضا عدد الزوّار من خارج السلطنة إلا أن من يرتاده ويعرفه جيدا يُدرك هذه الأهمية التي تدفع بالعديد من المثقفين والكُتاب من الدول المتعددة للسفر عنوة لحضور مناشطه، أو توقيع إصداراتهم أو التزود بالكتب. الأمر الذي يعني أن علينا التفكير في كيفية الاستفادة من هذه التظاهرة في الترويج والجذب السياحي. إن السياحة الثقافية تقدم نفسها شريكا أساسيا في التنمية الثقافية، لما تشكله من تعظيم لقيمة المبدعين في المنظومة الثقافية من ناحية، ومن تعزيز للتنويع الثقافي من ناحية أخرى؛ فالسياحة الثقافية كما تقوم على إشراك التراث الثقافي بمنتجاتها المادية وغير المادية وتسهم في صونه واستدامته، تقوم أيضا على إشراك المبدعين من خلال عرض منتجاتهم بمختلف أشكالها وأنواعها ودعم التنوع الفكري الذي يسهم في الترويج للهُوية الثقافية العمانية، ولهذا علينا جميعا أن نسهم في ذلك وأن نكون شركاء في تنمية السياحة الثقافية بما تستحق منا عُمان.