تأويل ما لم نسطع عليه صبرا
إن من النعم التي توجب الشعور بالامتنان للخالق عز وجل العبر والفوائد التي يمكن استخلاصها من القرآن الكريم؛ وذلك على اعتبار حقيقة أن محتواه صالح لكل الأزمنة وشامل لكل مناحي الحياة. وقد يكون من الجوانب التي تتطلب التعمق في البحث الأسس التي يرسيها القرآن الكريم في مبادئ علم التواصل وكيف ينعكس تطبيقها على تعزيز الاستفادة من هذا العلم في تحقيق الخير للبشرية. ويمكن الاستدلال على ذلك ما ينتج عن تكرار التأمل في سورة الكهف المليئة بالعبر والمواعظ وقصص الأولين مثل أصحاب الكهف، وصاحب الجنتين، والنبي آدم عليه السلام مع إبليس، والنبي موسى مع الخضر عليهما السلام، وأخيرا قصة ذي القرنين. ومع تعدد ما يمكن استخلاصه من مختلف القصص التي احتوتها السورة، فإنه قد يكون من المفيد إسقاط قصة النبي موسى عليه السلام ورحلته القصيرة مع الخضر عليه السلام على بعض مبادئ علم التواصل وما يمكن أن نربطه بها من ممارسات نعيشها في وقتنا الحالي بغض النظر عن مدى اتفاقنا معها أصلا.
ومع الإيمان بأن الحكمة من قيام الخضر عليه السلام بإخفاء تفسير ما قام به من أفعال في حضرة موسى عليه السلام كان نتيجة المشيئة الربانية بأن يوقن النبي موسى أن هنالك من هو أعلم منه على هذه الأرض - وهي حكمة بالغة - إلا أن القصة تبين أيضا أن عدم إطلاع ذوي العلاقة على دوافع القرارات التي يتخذها أي فرد أو جهة يؤدي إلى وجود فراغ معرفي قد يقود إلى وجود تفسيرات غير صحيحة لتلك القرارات لا تخدم بالضرورة التوجه الأصيل للجهة ولا حتى المصلحة العامة بشكل أساسي. ويقودنا الحديث في هذا السياق إلى أهمية أن تقوم الجهات والمؤسسات بإطلاع الأطراف ذات العلاقة بدوافع ومسببات القرارات التي يتم اتخاذها من أجل إيجاد أرضية ثابتة من القبول والفهم المتبادل والرؤية الواضحة تجاه الأهداف المرجو تحقيقها من تلك القرارات، تحول تلك الأرضية دون تزعزع القرار أو تعرضه للمقاومة من قبل الأطراف ذات العلاقة.
إن من المهم بالنسبة لأي مؤسسة أن تضع في اعتبارها أهمية وجود خطط لإشراك الأطراف ذات العلاقة تقوم من خلالها بحصر مختلف تلك الأطراف وتحديد طبيعة اهتمامها بذلك القرار وتأثرها به، وإلى أي مدى تهتم وتتأثر به، وما القنوات المناسبة للتواصل مع كل طرف منها، وما الرسائل الإعلامية التي ينبغي تضمينها من أجل التطرق إلى جوانب الاهتمام والتأثر، والفترات الزمنية لإجراء ذلك التواصل ومدى تكراره. ومن الطبيعي التسليم بأن وجود مثل هذه الممارسات من شأنه معالجة الفراغ المعرفي والتفسيرات الخاطئة اللذين قد يتولدان لدى المجتمع في حال عدم وجود ما يوضح أو يبرر القرارات المتخذة بشكل منطقي. تدور حوارات بين فترة وأخرى حول مبدأ العمل بصمت وما إذا كان نهجا مناسبا في إدارة قرارات وسياسات ومشروعات تلامس حياة الناس؛ خصوصا إذا ما وضعنا في الاعتبار أهمية المعلومات المتاحة في التنافس - المحمود منه على الأقل - بين الدول من أجل تحقيق السبق في مجالات مختلفة حسب ما يمكن تلمسه من مبررات لمؤيدي مبدأ العمل بصمت. ولكن في المقابل فإنه ينبغي التنبه إلى أن العمل بصمت يمكن أن يكون عنصرا أساسيا في صناعة الفراغ المعرفي، الذي لا يلبث أن يتم ملؤه بالأفكار والتفسيرات التي لا تخدم أجندة المؤسسات القائمة على القرارات والسياسات ويكون أحد أبرز نتائجه الطبيعية انتشار رواية Narrative لا تستطيع تلك المؤسسات لاحقا احتواءها أو مقاومتها بنهج رد الفعل، لتكبر كرة الثلج المتدحرجة المملوءة بصور مشوهة عن تلك المؤسسات والتي قد يمتد تأثيرها على مستوى صورة المنظومة ككل.
إن ما ينبغي الاستعانة به لإنفاذ السياسات والقرارات وخصوصا تلك الصادرة عن المؤسسات الخدمية هو الانتقال من مبدأ "العمل بصمت" إلى مبدأ "العمل بصوت" من أجل حشد التأييد المجتمعي والتقليل من احتمالات مقاومة القرارات والسياسات بسبب عدم وضوح دوافعها وجدواها، وسد الطريق على أية أطراف أو جهات أخرى قد تحاول فرض روايتها على المجتمع في ظل غياب الرواية الأصلية بما يحقق مصلحتها عوضا عن المصلحة العامة. ويمكن الاستدلال في سياق هذا الحديث على ما بدأ المجتمع بتلمسه من نتائج إيجابية لبعض السياسات التي انتهجتها الدولة فيما يتعلق بالتوازن المالي، والذي سعت المؤسسات المعنية من أجل تطبيقه إلى تبني إجراءات ضرورية وغير مسبوقة، صاحبها بعض التوضيحات والكثير من التذمر والمقاومة من الأطراف ذات العلاقة.
إن مما يتطلب إعادة التفكير من قبل المؤسسات الخدمية هو أنه لا ينبغي افتراض وجوب تفهم المجتمع للقرارات والسياسات الصادرة عنها دون وجود ما يفسرها أو يبررها. وإذا عدنا إلى قصة النبي موسى مع الخضر عليهما السلام - بالرغم من كل ما أوتيه النبي موسى من علم وحكمة وحسن خلق - فإن النبي موسى قد ضاق ذرعا مما قام به الخضر من أفعال، ومع معرفته عبر الوحي الرباني بأن الرجل الذي سيقابله في مجمع البحرين هو أعلم منه، وهو ما يتطلب وجود الثقة المطلقة في كل ما قد يقوم به. ومع فارق التشبيه بطبيعة الحال فإن ما ينبغي أن تؤمن به المؤسسات الخدمية هو أن المجتمع لا يمكن أن يقابل سياساتها بمستويات عالية من الثقة أو التفهم، فكيف يصبر المجتمع على ما لم يحط به خبرا؟
وأخيرا فإن ما يشير إلى الجدية في إحداث التغيير في هذا الجانب ما تم الإعلان عنه حول التوجيهات السامية لجلالة السلطان المعظم - حفظه الله - في عدد من اجتماعات مجلس الوزراء التي تفضل بترؤسها والتي تحث على أهمية تفعيل ممارسات التواصل والإعلام سواء على مستوى القيادات أو المستوى المؤسسي، وهو ما ينبغي أن يعزز الشعور بالمسؤولية من أجل مواكبة الرؤى والخطط والمشروعات بممارسات في التواصل والإعلام تسهم في تحقيق تطلعات الجميع من أجل مستقبل أفضل.
* مهتم بالاتصالات الاستراتيجية والهوية المؤسسية
