الوحي.. مجلة من زمن التأسيس

25 يوليو 2021
25 يوليو 2021

خميس بن راشد العدوي -

عمانيون كُثر.. لا يعرفون الآن مجلة «الوحي»؛ فضلاً أن يدركوا أهميتها، وهي من المجلات التي اعتمدت عليها الدولة الحديثة في بداية تأسيسها، وهي بدايةٌ لابد من الاهتمام بها، ووضعها تحت سناء الضوء، لأنها مفتتح عصرنا الذي نعيش، ومعتمد مستقبله. فالتأريخ العماني.. يتشكّل من أطوار كبرى، بلغت بحسب دراستي لها ستة أطوار، ابتدأت منذ ما قبل الألفية الثالثة قبل الميلاد، وكان الطور السادس هو تدشين الدولة الحديثة على يد السلطان قابوس بن سعيد طيّب الله ثراه عام 1970م، ونحن اليوم نبذل جهوداً كبيرة لجمع المادة التأريخية عن تلك الأطوار، لاسيما.. التي غبرت في بيداء التأريخ، وهذا أمر مفهوم؛ لعدم وجود ثقافة التوثيق، ولأكل الزمن معظم تلك الوثائق.

بيد أننا نواجه هذه المشكلة في توثيق طور بلادنا الأخير، مع توفر كافة الوسائل اللازمة للتوثيق؛ المناهج والمؤسسات والأدوات والكوادر المتقِنة للعمل. واعترافاً بالحق.. هناك بعض المؤسسات التي تعمل على حفظ الوثائق، لكن ظهورها جاء متأخراً؛ وعملها لا يزال يحبو، ولذلك.. من المهم أن تتوجه عناية الدولة إلى حفظ وثائقها التي أسست لأحد الأطوار الكبرى في التأريخ العماني. فالأمم.. تثبت وجودها وحضارتها بجمع وثائقها وحفظها، وإتاحتها للدراسة والتحليل، وكم من أمة صغيرة؛ ناهض ذكرُها لاستحضار تأريخها، وكم من أمة كبيرة؛ خامل ذكرُها لغياب وثائق تأريخها.

«الوحي».. مجلة صدرت في النصف الثاني من سبعينات القرن العشرين الميلادي، صدر عددها الأول بمناسبة العيد الوطني الخامس بتاريخ: (13 ذو القعدة 1395هـ الموافق 18 نوفمبر 1975م)، واستمرت حتى العدد الرابع والثلاثين في (صفر 1399 يناير 1979)، حيث تزامنت مع أول خطة خمسية للحكومة، ومعنى هذا.. أنها صدرت برؤية واضحة ومستهدَفة مِن قِبَلها، بعد أن تجاوزت الدولة السنوات الخمس الأولى في ترسيخ وجودها، وتلمّس مستقبلها. المجلة.. صدرت عن وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية لمّا كان وزيرها الشيخ الوليد بن زاهر الهنائي، ويرأس تحرير المجلة: (خلفان محمد سالم)، وكلا الرجلين من أسر وبيئة دينية؛ لهما حضورهما في المجتمع العماني.

هذا التقديم مهم لفهم توجه المجلة، وتحليل الأوضاع التي صدرت فيها، حيث أريد منها أن تواجه «الشيوعية» فكرياً، بعدما هُزمت عسكرياً في ظفار، وليس هناك أمضى من الفكر الديني حينها لمواجهة الأفكار الدخيلة على المجتمع، فاختيار المؤسسة ورجالها لإدارة المجلة كان مؤثراً اجتماعياً، وفهم المزاج الاجتماعي هو المدخل الأساس في معالجة قضايا الفكر.

ودراسة مواضيع المجلة تكشف لنا جانباً من التفكير الاجتماعي السائد حينذاك، وتمكننا من فهم معالجة «الفكر الشيوعي» التي ولجتها الحكومة من بوابة الدين الإسلامي، ويضيق هذا المقال عن تتبع أعداد المجلة المتوفرة لدي، ولذلك.. أكتفي بالإطلالة السريعة على العدد الأول منها، وبما يلامس المعالجة مباشرة، وإلا فهي مصمَمة كلها لهذا الغرض، فقد كانت المعركة «وجودية»، ليس بالنسبة للسلطنة فحسب، وإنما للمنطقة عموماً؛ خاصةً.. شبه الجزيرة العربية، التي استطاعت الشيوعية أن تتخذ لها دولة فيها بالجنوب اليمني.

الغلاف.. ذو دلالات تعبيرية تكشف عن رسالة المجلة وهدفها، يتصدر الغلاف صورة (أحد المساجد التي تظهر طريقة العمارة الإسلامية في صلالة)، وتحت الصورة عبارة: (وتهاوت نظريات ماركس أمام عظمة الإسلام). وأما في أعلى الصورة على الزاوية اليمنى فيأتي اسم المجلة: «الوحي»، وعلى الزاوية اليسرى تتسطر عبارة: (ملف خاص بمناسبة العيد الوطني)، مشهد الغلاف يفصح عن طبيعة المرحلة ورسالة المجلة؛ بما يكفينا كثيراً عن التحليل، فإظهار صورة مسجد من صلالة ليرسّخ في النفس بأن ظفار أرض مسلمة لها حضارتها التي يُتكأ على بُعدها الديني المتمثل في المساجد، والتي جاءت الشيوعية لتقوِّض معالمها، ويؤكد ذلك.. العبارة أسفل الصورة بأن زمن ماركس قد ولّى، وأن عظمة الإسلام هي الباقية والراسخة في الضمير العماني، كما أن ربط صدور أول عدد من المجلة بالعيد الوطني؛ يشير إلى أن الدولة بأسرها ترتكز على المحور الديني وتدور في فلكه، وأن الشيوعية لا مكان لها بين المسلمين. وفي المقابل.. أن المجلة ناطقة باسم الدولة، وأنها هي اللسان المعبِّر عن التوجهات الفكرية للمرحلة رسمياً.

«الوحي».. اسم جاء ليعمّق قضية أن الإسلام الموحى به من الله هو عقيدة الدولة الدينية، وهو كذلك أداتها في مواجهة الأفكار الدخيلة، وأن الدولة مصمِمة على بناء العماني بهذا «الوحي» الكفيل بهدم «صروح الإلحاد»، وعلى تراتيله تبنى النهضة الحديثة.

وفي داخل صفحات العدد الأول منها.. نجد الآتي:

- في «الافتتاحية»: (وإحساساً منا بأهمية الكلمة المقروءة في نطاق نشر الدعوة الإسلامية، ودورها في محاربة الأفكار الهدامة الواردة إلينا من خلف الحدود، ومواجهة الغزو الفكري الذي نتعرض له، كبلد عربي إسلامي عريق مجيد التاريخ؛ يشكّل صمام أمن المنطقة ودرع استقرارها الحقيقي [...] يأتي صدور هذه المجلة).

- وفي «حديث الشهر» (بقلم معالي الشيخ الوليد بن زاهر الهنائي وزير الأوقاف والشؤون الإسلامية): (إن النهضة التي تشهدها السلطنة منذ تولي جلالة السلطان قابوس المعظم مقاليد الحكم تحتاج إلى يقظة روحية، وإلى نهضة مماثلة في العلم والمعرفة وتجديد شباب المجتمع، حتى يساير بيسر وسهولة انطلاق دولتنا المباركة نحو التقدم والرقي. ولقد تعرض الدين الإسلامي في جزء من بلادنا وبلاد أخرى إلى حملات مشبوهة للنيل منه، وأمام موجة الإلحاد يجب ألا نقف مكتوفي الأيدي؛ فإن على حملة الرسالة أن يكسروا هذه الموجة ويحطموها، وهذا واجب مقدس، وجزء كبير منه يقع على عاتق الزعماء والعلماء المسلمين والمسؤولين عن الدعوة الإسلامية، [...]، وأتشرّف بأن أقدم هذه المجلة كإحدى منجزات وزارة الأوقاف والشؤون الإسلامية هدية إلى صاحب الجلالة السلطان قابوس بن سعيد المعظم، وإلى الشعب العماني الكريم).

لأجل هذا.. فمن الضروري قراءة تلك المرحلة؛ فهي ما شكّلت الدولة الحديثة وصنعت أجيالها الحالية، والتي قد نستلهم منها شيئاً من الحل لبعض أزماتنا الحالية. بيد أننا نعاني من مشكلة غياب الوثائق، وقد دعوت مراراً إلى ضرورة البحث عن الوثيقة، وما في حكمها، والعمل على تصنيفها وحفظها وإتاحتها للباحثين.

فهذه المجلة التي أسهمت في بناء الإنسان والوطن الحديث؛ لا توجد جهة رسمية وغير رسمية تحتفظ بأعدادها، وهذا تفريط في مصادر معرفية لا تقدّر قيمتها بثمن. وبما أنني أنادي دائماً بالعمل على البحث عن الوثائق؛ لاسيما.. التأسيسية، فإني شرعت في جمع أعداد مجلة «الوحي»، وكنت قد حددت شهراً لجمعها، حيث توقعت بأن أعدادها محفوظة في وزارة الأوقاف والشؤون الدينية، أو وزارة الإعلام، أو هيئة الوثائق والمحفوظات الوطنية، أو المكتبة الإسلامية، أو على الأقل معظمها، وأن البقية لا يلزمني للعثور عليها أكثر من أيام معدودة، ولكني تفاجأت بعدم وجود أية جهة عُنيت بحفظها، وطفقت أبحث عنها بين أيدي الناس؛ وها قد قضيت في البحث أكثر من سبعة أشهر، ولم أعثر على جميع الأعداد، فما عثرت عليه حتى الآن 22 عدداً من جملة 34 عدداً، رغم أني بحثت في معظم بلدان عمان، وبعضها حصلنا عليه من خارج السلطنة.

إن فَقْدَ الوثائق الوطنية وضع آل إليه حقلنا الثقافي، وأرى من الواجب المسارعة في جمعها وحفظها، حتى لا تفرمها آلة الزمن بأسنانها الحادة. وأذكر هنا -أمثلةً- بعض المشاريع الثقافية المؤسِسة من المجلات والصحف: الثقافة الجديدة، والسراج؛ بمرحلتيها، والوعي، والغدير، والعقيدة، والنهضة، والأسرة، وعُمان، والوطن، بالإضافة إلى الإصدارات عموماً في السلطنة، والتي أرجو أن تكون جهات إصدارها محتفظة بأعدادها.

وأما نهاية المجلة.. فتلك قصة أخرى؛ تروي تطورات الوضع والحكمة القابوسية في معالجتها.