الوحشية في المواجهات المسلحة... لماذا؟
نشأت المجتمعات البشرية ليس فقط كحاجة اجتماعية نظرا لأن الإنسان كائن اجتماعي يحتاج إلى الحياة في جماعات، ولكنها نشأت أيضا كحاجة اقتصادية، نظرا لحاجة الإنسان إلى التعاون والتكامل مع أقرانه من أجل سد احتياجاته وتوفير مستلزمات حياته والحفاظ على بقائه، وأدى نمو واتساع وتعدد جوانب الحياة وتقاطع المصالح إلى جعل الحاجة إلى تنظيم حياة الإنسان في المجتمع ضرورة وأمرا لا غنى عنه، يتطلب بدوره توافقا بين أعضاء المجتمع للتوافق على ما يجمع بينهم من مصالح مشتركة وعلى كيفية تحقيقها وحمايتها، ومن ثم ظهرت القوانين المنظمة لحياة الجماعة والمحافظة عليها، وامتد ذلك من النطاق المحلي إلى النطاق الدولي مع ظهور الدول والحاجة إلى صيغ ومبادئ تنظم حياتها وعلاقاتها ومصالحها معا وتحافظ على السلم بينها وتحول دون تصادم مصالحها وتنازعها قدر الإمكان، ومن هنا ظهرت قواعد ومبادئ القانون الدولي، بجوانبه وفروعه المختلفة المنظمة لمصالح الدول واستغلالها للمرافق والموارد المتاحة لها، وحتى المنظمة لصراعاتها ومواجهاتها المسلحة معا منذ عدة قرون، والتي كان من مبادئها المعروفة – بالنسبة للجيوش الإسلامية على الأقل – ألا تقتل شيخا ولا صبيا ولا امرأة ولا تقطع شجرة ولا تسمم بئرا، كما كانت الشرائع السماوية ومنها الإسلام تحث على الحفاظ على الحياة البشرية وعلى عدم الاعتداء على الغير. وبالرغم من التقدم الكبير والتطور الاجتماعي والاقتصادي والفكري والقانوني الذي تحقق سواء على المستوى الداخلي في المجتمعات المختلفة، أو على مستوى التنظيم الإقليمي والدولي في القرون الخمسة الأخيرة على الأقل، إلا أنه من المؤسف أن هناك حالة من التدهور الشديد على مستوى التعامل بين الدول وداخل المجتمعات، خاصة فيما يتصل بالمواجهات المسلحة والتي تفتقر إلى الالتزام بقواعد الحروب وفق مبادئ وقواعد القانون الدولي والقانون الدولي الإنساني وحقوق الإنسان بوجه عام، وما يجري من أعمال عنف تصل إلى حد الوحشية في العديد من المواجهات المسلحة والصراعات الجارية من حولنا على مدى السنوات الأخيرة بات يدعو للتساؤل ويحث على العمل بكل السبل الممكنة من أجل الحد على الأقل من الوحشية التي تعاني منها الشعوب وخاصة الأطفال.
وفي هذا الإطار يمكن الإشارة باختصار شديد إلى ما يلي: أولا، إنه إذا كانت سيكولوجية الحرب والظروف المحيطة بها تضع من يمر بها أو يتعرض لها في حالة تستدعي أقوى وأشد غرائزه وهى غريزة البقاء ومن ثم التخلص من غريمه أولا، قبل أن يتخلص غريمه منه، فإن تكتيكات الحرب وأسلحتها والقدرة على توجيهها والتحكم فيها بدرجة عالية الآن تلقي بمسؤولية كبيرة ليس فقط على الفرد المقاتل الذي ينفذ أوامر قادته في الميدان، وإلا تعرض للعقاب الذي قد يصل إلى التصفية المباشرة، ولكن أيضا على عاتق القيادات التي تتحكم في حركة وأداء المجموعات المسلحة. ولذا فإن اللوم والمحاكمة الجنائية بسبب جرائم الحروب والجرائم ضد الإنسانية تطال القيادات الكبيرة المتحكمة في اتخاذ قرارات العمل المسلح في الظروف والمواقع المختلفة وهو ما تعمل الدول المختلفة على حمايتها بوسائل متعددة وهو ما يشكل ثغرة كبيرة على الصعيد العسكري والقانوني والسياسي كذلك. فلم يتم حتى الآن على الأقل النجاح في التعامل الكفء والفعال معه لأسباب كثيرة. فمنذ أعمال العنف الوحشية في جنوب إفريقيا بين قبائل الزولو والمستوطنين البيض قبل انتهاء التفرقة العنصرية وتولي منديلا الحكم في عام 1992، ومرورا بالأعمال الوحشية في رواندا بين قبائل الهوتو والتوتسي وفي البوسنة والهرسك وصربيا ضد المسلمين في منتصف التسعينيات، ومرورا بجرائم القوات الإسرائيلية الممنهجة والمستمرة منذ ما قبل قيام إسرائيل وفي مخيمات صابرا وشاتيلا ونابلس وجنين حتى الآن، وكذلك في الحروب في العراق وسوريا وليبيا واليمن وتشاد وإفريقيا الوسطى ومالي والسودان الآن، حيث أعلنت منظمة الأمم المتحدة للطفولة أنه منذ بدأت الحرب في السودان منتصف الشهر الماضي يتم قتل سبعة أطفال في المتوسط كل ساعة وقد استغاثت المنظمة من أجل إنقاذ أطفال السودان وشعبه بسبب أعمال القتال في المناطق السكنية والتجاوزات البشعة ضد المدنيين، ولكن للأسف ليست هناك استجابات لتلك الاستغاثات المتكررة.
ثانيا، إنه مع الوضع في الاعتبار أن الفشل في وقف أعمال العنف أو على الأقل الحد منه لا يعود إلى الافتقار للقوانين المانعة لتلك الجرائم، فالقوانين موجودة على الصعيدين الداخلي والعالمي أيضا، ولكن انتشار وتفاقم العنف يعود إلى أسباب أخرى من أهمها وفي مقدمتها أن القانون الدولي والتنظيم الدولي بوجه عام لا يزال أقل إلزاما وأقل احتراما من جانب الدول، خاصة تلك التي تجد لديها الحافز والقدرة على انتهاك قواعد القانون الدولي وعدم احترامها وتحمّل أية تبعات قد تترتب على ذلك والأمثلة في هذا المجال أكثر من أن تحصى. وإذا كان ذلك يعود في جانب منه على الأقل إلى ضعف الإيمان وعدم الثقة في قواعد القانون الدولي ومؤسساته الإقليمية والعالمية، بحكم حداثتها النسبية، فإنه يعود بشكل أكبر إلى ما يمكن تسميته بأثر التقليد أو النموذج والقدوة التي تقدمها القوى العظمى والقوى الكبيرة على المستويات الإقليمية والدولية وخاصة الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي السابق وروسيا الاتحادية والقوى الأوروبية المختلفة منذ عهد الاستعمار والقوى الإقليمية التي تستطيع ممارسة العدوان وحماية نفسها ومصالحها بشكل أو بآخر. يضاف إلى ذلك أنه إذا كانت العلاقات الدولية لا تزال تقوم على أساس مبدأ القوة، فإن المعضلة على المستوى الدولي هي الافتقار إلى سلطة دولية لها القدرة على الاضطلاع بتنفيذ القانون أو القرارات الدولية التي تصدرها مؤسسات النظام الدولي القائم. فحتى الآن، ووفق ميثاق الأمم المتحدة فإن مجلس الأمن الدولي هو فقط المنوط به القيام بعمليات استخدام القوة لحفظ السلام والأمن الدوليين، وفق الفصل السابع من الميثاق ووفق ضوابط صعبة يمكن تفعيلها إذا كانت تخدم مصالح دولية محددة ويمكن عرقلتها باستخدام الفيتو من جانب إحدى الدول دائمة العضوية في مجلس الأمن، ويمكن تحديها علنا وبشكل سافر إذا قررت دولة عظمى كالولايات المتحدة أو روسيا ذلك كما حدث في أفغانستان والعراق وسوريا ومن قبلها المجر عام 1956 وتشيكوسلوفاكيا عام 1968 والآن أوكرانيا والنموذج ينتقل وتتم محاكاته من جانب القوى الإقليمية القادرة على ممارسته بقدر معقول من حماية مصالحها.
على الصعيد الداخلي، فإنه بالرغم من أن درجة التقدم وإدراك أهمية ضرورة الالتزام على المستوى التنظيمي هي أكبر وأكثر تقدما منها مقارنة بما هي عليه على مستوى النظام العالمي، إلا أن تزايد أعمال العنف والوحشية في المواجهات المسلحة الداخلية يعود إلى وجود أكثر من طرف أو رأس يعطي لنفسه حق امتلاك سلطة ممارسة القوة وتطبيق القانون، بل وتبرير استخدام القوة المفرطة ضد الخصوم بمن فيهم المدنيون من منطلق أو بحجة أنهم معادون للسلطة الرسمية أو القانونية، ومن هنا تنشأ مبررات استخدام القوة للقيام بانقلابات عسكرية وتدخل الدول والمجتمعات في صراعات بغض النظر عن المواقف القانونية للقوى التي تساندها أو تقف وراءها، ويزداد الأمر سوءا إذا استخدمت القوة للقيام بانتهاكات وأعمال مخالفة للقانون الدولي والداخلي مثل الاعتداء على الدبلوماسيين ومقرات البعثات الدبلوماسية أو القيام بأعمال السلب والنهب للمتاجر والمؤسسات والمنازل أو أعمال البلطجة والترويع وهي أعمال ميليشياوية يجرمها القانون في النهاية. على أية حال فإن زيادة استخدام العنف تعكس ارتدادا إلى الخلف وانحسارا في الإيمان بقيم القانون وأهمية تحقيق السلام وما يمكن أن تقوم به مؤسسات الدولة والمجتمع الدولي، وهي أزمة ثقافية وسياسية وقانونية تغذيها ممارسات القوى الكبرى ومحدودية ثقافة القيادات المسؤولة عن اتخاذ القرارات على الصعيدين القانوني والسياسي وعلى المستوى الأخلاقي والاجتماعي أيضا ووقف هذا التدهور لن يتم سريعا للأسف الشديد.
ْ ْْ
