الواقع الذي يشكله الجمهور عبر وسائل التواصل
تطرقت هذه المساحة في أكثر من مرة إلى الأدوار التي يمكن أن تؤديها المؤسسات المعنية في مخاطبة الجمهور وتفاعلها معه، والأثر الذي قد ينتج عن ذلك على صورتها الذهنية، وكذلك الممارسات التي يمكن أن ينتج عن تبنيها تعزيز إدارة المؤسسة لأنشطة التواصل والإعلام. وقد يكون من المفيد أيضا النظر إلى طرف ذي أهمية في منظومة التواصل وهو الجمهور نفسه؛ خصوصا مع اعتبار أن السياق الذي يتم تشخيص هذه الممارسات والظواهر ضمنه هو سياق التواصل بمعناه الكامل؛ أي أنه يكون ثنائي الاتجاه، والذي يعني أن هنالك دورا يؤديه الجمهور ليس فيما يتعلق بطبيعة الصورة الذهنية لأي مؤسسة فحسب، وإنما في تشكيل الواقع الذي يضم مختلف الأطراف المكونة لمنظومة التواصل.
«الواحد خايف يقوم الصبح يلاقي الناس تدافع عن المسيح الدجال لأنه حرام بعين وحدة» كانت هذه العبارة أحد أدق التعليقات المتداولة بين الجمهور العربي على خلفية تعاطف العديد من المتابعين من مختلف أنحاء العالم مع شاب في مقتبل العمر حسن المظهر يدعى كاميرون هيرين دهس أمّاً ورضيعتها التي لم تكمل عامها الثاني أثناء قيادته بسرعة متهورة في سباق سيارات غير قانوني والذي صدر بحقه الحكم بالسجن مدة أربعة وعشرين عاما. وسواء كان الحديث عن تفاعل الجمهور مع قضية كاميرون أو غيرها من القضايا، فإن الأمر يتطلب البحث عن ما يحرك الجمهور ويقودهم للوصول إلى خلاصات قد تغلّب العاطفة في كثير من الأحيان على المنطق، أو في بناء أحكامهم على أساس معلومات مجتزأة أو صورة ناقصة يتضح لاحقا أن الصورة الكاملة تؤسس لأحكام مغايرة لما أطلقه الجمهور في بداية القضية.
إن من المهم أن يعزز المجتمع وعيه حول كيفية عمل وسائل التواصل بشكل عام؛ فهي لا تنقل واقع مدخلاتها بشكل كامل - سواء كانت قضايا أو مواضيع أو أشخاص - بل تتعرض في كثير من الأحيان إلى «تحسين» تلك المدخلات بما يخدم رواية Narrative الطرف الذي يقوم بنشرها عبر وسائل التواصل؛ لذلك فإن ما يمكن اتباعه من أجل صياغة حكم أو تشكيل قناعة تجاه قضية أو موضوع أو شخص هو الإلمام بأكبر قدر ممكن من المعلومات الموثوقة، بل ويمكن الذهاب إلى أبعد من ذلك وتحري مدى مصداقية المصدر والتفكر في ما يمكن أن يكون لديه من دوافع أو أهداف وراء ما يقوم بنشره.
وحول ما يتعلق بالعاطفة Emotions - وليس المشاعر Feelings - في وسائل التواصل، فإن مما يمكن الالتفات إليه من عناصر تشكل واقع تلك الوسائل هو المبالغة في التعبير عن العاطفة (السعادة أو الحزن أو الغضب أو الخوف أو الامتعاض) أو اصطناعها، والذي قد يكون امتدادا لمحاولات «تحسين» الواقع الذي يعيشه الفرد من أجل إعطاء انطباع معين أو كسب التعاطف أو التأييد أو إثارة الانتباه أو غيره من الدوافع المقصودة أو غير المقصودة. ومن المهم هنا الإشارة بإصبع المسؤولية إلى بعض الفاعلين عبر وسائل التواصل - أو كما يفضل بعض المهنيين تسميتهم بالمؤثرين Influencers - والذي يسهمون في ترسيخ المبالغة في التعبير عن العاطفة أو اصطناعها عبر استعراضهم اليومي لأسلوب حياة مصطنع لا يعبر عن الواقع، يولد في كثير من الأحيان الرغبة اللاإرادية لدى الجمهور في أن يعيشوا ذات أسلوب الحياة. لذا فإن من المهم أن يعي الجمهور أن أولئك الفاعلين هم أشخاص عاديون اختاروا كسب رزقهم بطريقة معينة وهم يبذلون جهدا كبيرا في ذلك، كما ينبغي أن يطرح الجمهور تساؤلات تجاه التجارب التي يشاركها بعض الفاعلين عبر وسائل التواصل سواء عن دوافع ترويج منتج معين - والذي يكون في كثير من الأحيان عملا تجاريا بمقابل مادي ولا ضير في ذلك - وما إذا كان ذلك المنتج هو فعلا الأفضل أو الأفخم أو الألذ أو الأرخص أو غيرها من أسماء التفضيل، وعلى أي الأسس ينال ذلك المنتج تلك الصفة. وقد تكون مشاهدة الفيلم الوثائقي «الشهرة الزائفة Fake Famous» مفيدة لمعرفة الصورة الكاملة حول طبيعة بعض الفاعلين وطريقة تعاملهم مع الشركات ورسمهم أسلوب الحياة الذي قد لا يعبر في كثير من الأحيان عن واقعهم.
إن من الظواهر التي يمكن استشفافها مؤخرا هي أن جزءا لا بأس به من الجمهور يميل إلى استخدام الصور النمطية والتأطير في نظرته للمواضيع والقضايا المطروحة عبر وسائل التواصل، ويقوم على ضوء ذلك بتوزيع الأدوار وتشكيل القناعات بناء على الصورة النمطية التي ترسخت في أذهان الجمهور مما قد يؤدي إلى استباق الخلاصات أو إطلاق الأحكام المسبقة. وبغض النظر عن الدور الذي ينبغي أن تقوم به المؤسسات في تعزيز الصورة المتشكلة حولها في أذهان الجمهور - والذي تم التطرق له في أسابيع سابقة عبر هذه المساحة - فإن دور الفرد هنا يتمحور حول التفكر وإمعان النظر في القضية، والتجرد من التصورات السابقة. وتكمن أهمية إيمان الفرد بدوره ضمن قضايا الرأي العام في التأثير الذي يمكن أن تحدثه الكلمة المسؤولة والطرح المتزن والتحليل المنطقي في معالجة تلك القضايا بل وإتاحة المجال للمؤسسات للاستفادة مما يتم طرحه في سبيل تحسين أعمالها.
وختاما فإن ما ينبغي الالتفات إليه ضمن الحديث عن الواقع الذي يشكله الجمهور عبر وسائل التواصل هو وجود الطاقات الذهنية المتقدة والأفكار الطامحة للأفضل لدى الجمهور بشكل عام وفي فئة الشباب تحديدا، والتي يمكن أن تستفيد منها الجهات المعنية في إيجاد الأوساط المثلى لتفريغ تلك الطاقات، وحتى الإسهام في تعزيز عمل المؤسسات المختلفة عبر تبني تلك الطاقات والأفكار.
*مهتم بالاتصالات الاستراتيجية والهوية المؤسسية.
