الهويّة والغيريّة .. وتموُّج الفكر الإنساني بين الأصالة والاغتراب

04 أغسطس 2021
04 أغسطس 2021

الهويّة موضوع فلسفيّ بالأصالة، عالَجه الفلاسفة المثاليّون والوجوديّون على حدّ سواء، فعالجه المثاليّون ميتافيزيقيًّا وحوّلوه إلى قانون الهويّة، وعالَجه الوجوديّون نفسيًّا منعًا لانقسام الذّات على نفسها وبالتالي إنكار الوجود الإنسانيّ. وقد يصبح موضوع الهويّة عند بعض الفلاسفة القانون الأوّل في الفكر وفي الوجود مثل «فيشته»، و(الغيريّة) ليست قانونًا مستقلًا بذاته ومُغايرًا بل هو نفي للهويّة «اللّا أنا»، ويكون القانون الجدليّ الموضوع: «الأنا» نقيض الموضوع: «اللّا أنا»، ومركّب الموضوع «الأنا المطلق»، إنّه تكرارٌ لفظيّ للضمير المُنفصل «هو» مثل معظم مُصطلحات الفلاسفة ومُشكلاتهم.

كما يتداخل مفهوم «الهويّة» مع مفهوم «الماهيّة»، فإنّه يتداخل أيضًا مع مفهوم «الجوهر»، وتنتسب المفاهيم الثلاثة التي تنتمي إلى جذرٍ معنويّ، لا لغوي، واحد إلى مفهوم الأصل. وإذا كان مفهوما «الماهيّة» و«الهويّة» مشتقَّين لغويَّين من الجذر نفسه «هو"، فإنّ «الجوهر» استعارة من عِلم المعادن من الجوهر النفيس.

والهويّة خاصّة بالإنسان والمجتمع، الفرد والجماعة، وهي موضوع إنساني خالص. فالإنسان هو الذي ينقسم على نفسه، وهو الذي يشعر بالمُفارقة أو التعالي أو القسمة بين ما هو كائن وما ينبغي أن يكون، بين الواقع والمثال، بين الحاضر والماضي، بين الحاضر والمستقبل، هو الذي يشعر بالفصام، وهو الذي تنقلب فيه الهويّة إلى «اغتراب»، الإنسان وحده هو الذي يُمكن أن يكون على غير ما هو عليه، فالهويّة تعبير عن الحريّة، الحريّة الذاتيّة. الهويّة إمكانيّة قد توجد وقد لا توجد، إن وُجدت فالوجود الذاتي، وإن غابت فالاغتراب.

قد يَعتبر بعض الوجوديّين أنّ الهويّة هي البدن لرفضهم ثنائيّة النَّفس والبدن، «أنا جسمي» كما يقول «جابريل مارسل»، وعن طريق الجسم أتحرَّك وأنتشر في العالَم، ويرفض «سارتر» مقولة ديكارت «أنا أفكّر» ويفضِّل «أنا موجود»، والوجود هو البدن قبل أن يتخلّق فيه الوعي.

ولذلك كان أفضل منهج لتناول الموضوع هو المنهج الظاهراتي (الفينومينولوجي)، منهج تحليل الخبرات الشعوريّة طالما أنّ الهويّة ظاهرة إنسانيّة، وهو تحليل مباشر من دون الاعتماد في مقدّماته أو نتائجه على أدبيّات الموضوع من أجل تجاوُز منهج «قال... يقول»، وتجميع أقوال السابقين.

وإذا كان صعبًا تحديد الهويّة إيجابًا، فإنّه من السهل تحديدها سلبًا أي تعيين مسألة فقدان الهويّة أو ما يسمّى «بالاغتراب»، أي حين تخرج الهويّة خارج الوجود، وينسى الإنسان وجوده الأصلي، وقد تحدَّث الفلاسفة، «الهيغليّون» تحديدًا، عن الاغتراب أكثر ممّا تحدث الفلاسفة عن الهويّة.

ومصطلح «الهويّة» لفظ تراثي قديم، موجود في كُتب المصطلحات مثل «التعريفات» للجرجاني ومعناه أن يكون الشيء هو هو، وليس له مقابل ممّا يدل على ثبات الهويّة، وهو موجود أيضًا في المعاجم والقواميس الغربيّة في مصطلح «آيدانديتي» وأحيانًا في مصطلح «الآنيّة» مشتقّ من «أنا»، بالمعنى نفسه يستعمله الفارابي في كِتاب «الحروف» في مقابل اللّفظ الغربي «آلتريتي» ويعني «الغيريّة» وهو على نقيض (الهويّة).

لذلك، يتصوّر الكثيرون من الناس الأصالة فيربطونها بالزمن، أن يكون الماضي جذرك وعمقك، وبذلك تكون الأصالة لها معنى في علاقتنا مع الماضي، على اعتبار أنّ للزمن جذوره كما للمكان، وجذر الزمن هو كلّ ماض استهلكته الحياة.

لهذا يخيّل لبعض الناس أنّ الأصالة هي دخول الماضي لنغيب فيه، بحيث نعتبر أنّ الماضي مؤصَّل في الشخصيّة ومعمَّق في الوجود، فيجب علينا أن نقدِّس الماضي، حتّى أنّنا يجب أن نعتبر الأخطاء مقدّسات.

وعلى هذا الأساس، تحدَّث بعض الناس عن الأصالة كما لو كانت تركيزًا على التخلّف، حيث يحتضن الماضي الكثير من التخلّف في الفكر وحركة الحياة.

ونجد بعض الناس يتحدّثون عن التغريب في الجغرافيا والمكان، تمامًا، كما لو كان هناك فاصل في الخطوط الفكريّة بين الشرق كمكان والغرب كمكان آخر، لتكون المسألة وطنيّة الشرق أو عصبيّته، مقابل وطنيّة الغرب أو عصبيّته، وكأنّ هؤلاء يريدون أن يقولوا «الغرب شيء والشرق شيء ولن يلتقيا»، على أساس أن تستغرق المسألة في المكان وتتشكّل عقدة ضدّ الغرب ولتنشأ كردّ فعل عقدة في الغرب ضدّ الشرق، وهكذا، تضيع الأصالة في ضباب المفاهيم المتنوّعة.

إنّنا عندما نتحدّث عن الأصالة، لن نتحدّث عن ماضٍ يحتضنه الزمن في ما يسمّى تاريخًا، فقد لا يحمل هذا الماضي في بعض مواقعه وخطوطه شيئًا يتأصّل الإنسان به، بل قد يكون شيئًا في السطح وفي الشكل، وقد نجد في الحاضر كثيرًا من عناصر الأصالة، لأنّ الإنسان يجد فيها نفسه ككائن حيّ تتجذّر مسؤوليّته في الوجود.

قد نجد في الغرب قيمًا إنسانيّة لا نجدها في الشرق، وقد نجد في الشرق قيمًا إنسانيّة سلبيّة - لا إنسانيّة - لا نجدها في الغرب، وذلك لسبب بسيط: وهو أنّ الفكر لا وطن له، حيث إنّه يستوطن مكانًا لأنّه ينطلق في وعي إنسان مفكِّر يعيش في هذا المكان، وجاءت الظروف الموضوعيّة لتفرضه واقعًا في حركة الفكر في هذا البلد.

ليس هناك وطن للفكر، الفكر أعلى وأسمى من التاريخ ومن الجغرافيا، حيث إنّ الجغرافيا والتاريخ يكبران به، به يتقدّس المكان والزمان ولا يتقدّس الفكر بالزمان والمكان.

لا تدخل المبادئ في عمليّة استيراد وتصدير لأنّها ابنة الحياة عندما تحمل عمق الحقيقة، وليست ابنة مكان معيّن، الإنسان يصنعها ويُبدعها، يستوحيها ويحرّكها. الفكر إنساني، لأنّ الإنسان هو الذي يبدعه عندما ينطلق به. قد تعطيك العروبة على سبيل المثال، بعض الخصائص التي تشجِّع حركة الفكر، ولكنّها لن تعطيك الفكر بحدّ ذاته، لأنّ الفكر إنساني ليس قوميًّا أو وطنيًّا، لذلك علينا أن نبتعد عن إعطاء الفكر المفاهيم التي تعلِّبه بالقوميّة أرضاً وزماناً، لأنّ الإنسان عندما ينطلق ليفكّر، يُبدع فكرًا إنسانيًّا انطلاقًا من خصائصه الإنسانيّة.

ما هي الأصالة؟

هي العناصر الفكريّة أو الروحيّة أو الأخلاقيّة التي تمثّل الجذور الأساسيّة في إنسانيّة الإنسان، في انتمائه الذي ينطلق من قناعاته الفكريّة. يكون الإنسان ذا أصالة في ما يحمله من فكر أو في ما ينتهج من منهج. ويمثّل هذا الفكر أو المنهج عمقًا في إنسانيّته في كلّ مواقعها وامتداداتها وأعماقها، أن ينطلق الفكر من عمق، من عقل، من دراسة ومن حاجة الحياة ومن حاجة الإنسان في الحياة.

إذاً، أنت أصيل بقدر ما يمثِّل فكرك عمق وجدانك وعقلك، والفكر يكون أصيلًا في الحياة بقدر ما يمثِّل حاجة الحياة في كلّ ضروراتها.

لذلك عندما نُعالج مفهوم «التغريب» يجب علينا مُعالجته على أنّه خطّ فكريّ تتحرّك فيه الحضارة التي عاشت في الغرب وانطلقت فيها، ولهذا، يصبح هذا المفهوم خطًّا في الفكر والنهج ليكون حركة في الحضارة.

فالقضيّة ليست انفعالًا ننفعل به، وليست انتماءً طائرًا ننتمي إليه، بل هي حياتنا، وفكرنا هو حياتنا، لأنّ الحياة صورة لكلّ مفاهيمنا التي تفرض نفسها سلبًا أو إيجابًا، تقدّمًا أو تخلّفًا على الحياة، وذلك من خلال الوجدان الذي نحمله، لذاك، لا يكون الانتماء حالة طارئة في الإنسان بل هو حالة ثابتة في وجوده، لأنّك بما تنتمي توجد.

لا بدّ لنا من أن ننطلق لنفكّر أوّلًا، لا الفكر الذي ينطلق ليدرس الإنسان في خطوطه العمليّة في الحياة، بل لدرس إنسانيّتنا، وليكون الفكر مُساويًا للعقلانيّة والموضوعيّة. ندرس كلّ انتماءاتنا لنعقلها ولنؤصّلها في وجداننا، لأنّنا قد نكتشف أنّ كثيرًا من انتماءاتنا كانت إرثًا ولم تكُن فعلًا.

والبيان الإلهي يؤكّد على ذلك بقوله: إنّا وجدنا آباءنا على أمّة وإنّا على آثارهم مهتدون. والإرث ليس سلبيًّا بالضرورة، لذا لا بدّ لنا أن ندرس سلبيّاته وإيجابيّاته، القضيّة في عالَم الفكر والانتماء، ليست أن يكون لك شيء جديد دائمًا، ربّما يكون لك فكر الآخرين لكن على أساس أن يتحوّل ليكون فكرك بعد أن تقتنع به أنت، لا لأنّ الآخرين اقتنعوا به، وهكذا هي المسألة في عمليّة التفاعُل: «لنفكِّر معًا» لا «فكّروا لنا»، لأنّ «فكّروا لنا» يلغي وجودنا.

الإنسان الأصيل هو الذي اختار فكره، ولم يتبع غيره، وهو الذي جعلَ قضايا الحياة هي هي قضايا هذا الفكر والانتماء، بحيث يتأصّل هذا الفكر في عمق الحياة.

تتحدّد «أصالتنا» حين تكون لنا الإرادة وحين يكون لنا الاختيار، فلا نواجه مفهوم «التغريب» عندئذ من موقع «العقدة» بين الشرق والغرب، وعقدة الضعيف من القوي.

محمّد عبده والأفغاني

ها هو «محمّد عبده»، أحد روّاد الفكر العربي في عصر النهضة، يدعو إلى تقليد أوروبا في مدنيّتها الحديثة وليس التقليد بالشكل. فقد دعا إلى تعلُّم اللّغات الأجنبيّة للأخذ بالعلوم الحديثة عن الغرب، مُعتبرًا ذلك أصلًا من أصول الإسلام. أمّا الأفغاني، فيُحذِّر من التقليد الأعمى ويعتبره خيانة، فضلًا عن أنّه يؤدّي إلى الانحلال الخلقي والسياسي.

مُواجَهة التغريب إذاً تقتضي دراسة القاعدة الفكريّة والفلسفيّة والأخلاقيّة للمسألة الفكريّة للغرب، أي أن ندرس قاعدته الفكريّة ثمّ ندخل في مُقارنة مع ما نلتزمه فكريّاً، لتكون المسألة قاعدة فكريّة تحاور قاعدة فكريّة أخرى ليس إلّا.

أمامنا ركام هائل من الأفكار والتقاليد والأوهام، لنحاول أن ندخل في حوار مع ذلك كلّه، حوار يرتكز على العقل، وينطلق من الموضوعيّة، ولْنحاول أن نعيش معنى «الفكر في الفكر»، لا أن نعيش معنى «الإرث في الفكر». علينا أن نبدع قناعاتنا في كلّ شيء لنملك وضوح الرؤية، ونعرف ماذا نريد ونقرِّر ما نريد، الساحة مفتوحة للّذين يقرّرون، لا للّذين ينتظرون مَن يقرِّر عنهم.

________

*كاتب وباحث من فلسطين

* ينشر بالترتيب مع مؤسسة الفكر العربي