الهوية.. تخلق المعركة وتوجد التحدي

26 مارس 2023
26 مارس 2023

لماذا هذا الإلحاح على طرح الأسئلة المتكررة عن مآلات الهوية؟ هل هو خوف على الكينونات الاجتماعية؟ أم الخوف على تصدع البناءات الاجتماعية الممتدة منذ مئات السنين؟ أم الخوف على التشوهات الخلقية التي سوف تصيب المجتمعات من انزواء الهويات؛ واعتبارها حالات ثانوية ليست بتلك الأهمية؟ أم أن هناك تغريبا عن الواقع بيد أبنائه الذين يفترض أن يدافعوا عنه بكل شراسة؟ أم أن المسألة غدت ضمن شريط الذكريات -أنَّ لنا هوية- والذكريات؛ غالبا؛ ما تنشئ أسئلة محزنة؟ وفي جانب آخر من ذات المسألة من هو الحارس الأمين على مجمل الهويات؟ هل الفرد نفسه؟ أم الأسرة؟ أم المجتمع بكافة قواه المتجذرة؟ أم المؤسسة الرسمية؟ أم أن المسألة برمتها لا تحتاج إلى حراسة؛ وإنما هي خاضعة لقناعات الناس في كل عصر؛ يؤمنون بصناعاتهم، ولا يلتفتون إلى ما تم تسلسله من صناعات تتناقلها الأجيال على أنها معززات للهويات؟ وهل التصدع في بنيات الهويات مرتبط بزمن بعينه؛ أم أن الحالة مستمرة بين مد وجزر على امتداد عمر الأجيال؛ والأجيال تتصارع على هوياتها في كل زمن؟ وهل يمكن للمؤسسة الرسمية أن تؤدي دورا محوريا للتصدي لكل ما من شأنه أن يزعزع بنيان الهويات؟ يحق للهوية (الاجتماعية/ الإنسانية) أن تخلق معارك طاحنة في كل عصر تعيشه، ولا يجب أن تتوقف ذلك لأنها الوحيدة التي تصول وتجول في الميدان الاجتماعي على وجه الخصوص؛ نعم؛ قد يحل الدين مناصرا لها، ولكن الدين ذاته يمتحن من قبل المنتمين إليه، فهناك أديان -نختلف نحن المسلمين- مع تعددها، ولكن المسلمين ليسوا الوحيدين الذين يملؤون الجغرافيا، فهناك أقوام ممتدة تؤمن بأديان كثيرة، وبعضها لا يجد له في الدين مرتعا، وبذا فالدين لم يعد سندا قويا للهوية إلا في مجموعاته الصغيرة، وهي ذاتها تواجه تحديات كثيرة، وبالتالي؛ فكما يشكل الدين أحد أهم معززات الهوية، تتسلسل من بعده بقية الصور؛ كالقيم السامية، والعادات، والتقاليد، والموروثات، واللغات، والجغرافيا، والبيئات الاجتماعية، ولكن الذي يخلق زعزعة الهويات في الانتماء لهذه المعززات كلها، هو الإيمان النسبي بها، حيث لا يوجد إيمان مطلق بهذه المعززات كلها، ما عدا الدين عند بعض الأقوام، وعند أقوام أخرى يجير الدين كيفما تكون المصلحة، وهذا لوحده تحد غير منكور.

راهنت الشعوب حتى عهد قريب على الهوية؛ وعلى أنها المخرج من الإشكاليات التي سوف تثيرها العولمة، ولكن يبدو أن هذا الرهان خاسر إلى حد كبير، ذلك أن العولمة نشبت أظفارها في كل مفاصل الحياة اليومية، وتدخلت حتى في حياة الفرد الخاصة، حيث لم يعد حرا بالمفهوم المطلق للحرية، لذلك عند النظر إلى هذا الأمر بواقعية العصر، يحضر القانون كأول محطة كبديل، أو كمحاذ للهويات، فالهويات ترتكن كثيرا على المثل «المثالية» فهذا الفرد بهويته مثالي إلى حد بعيد، ومتى خرج عن هويته، فلم يعد للهوية لديه معنى، بينما الواقع يحتاج إلى أكثر من معزز للبقاء الإنساني، وللمكون الاجتماعي، وبالتالي فالهويات، وإن عدت أمرا مهما لتعزيز السلوك الإنساني، فإنها لا تساوي شيئا أمام سلطة القانون، وبالتالي يمكن القول: إن القانون حاجة ملحّة، بينما الهوية ترف نسبي.

تُتهم وسائل التواصل الاجتماعي اليوم بأنها المحفز الكبير للتنصل من مختلف الهويات الضابطة لحركة حياة الأفراد، وذلك لأن كل فرد يملك قراره بغض النظر عن أية سلطة «أبوية» أو «تربوية» يمكنها أن تتحكم في قراره، أو المحافظة على شيء مما يشعره بهويته؛ ومن أن هذه الهوية لها استحقاقات لا بد أن تكون حاضرة في كل ممارساته، ومعنى هذا أن هذه الوسائل سلمت قرار ذلك كله للفرد نفسه، وبالتالي ما دام الأمر كذلك فلم تعد ثمة ضرورة لأن يلزم الفرد نفسه بأمر لا يكون ضمن قناعاته الشخصية، حتى وإن كان هذا الفرد لا يملك من خبرة الحياة شيئا مستحقا، مع ملاحظة أن هذا التحرر الذي أوجدته هذه الوسائل اليوم، لم يعد مرتبطا بمحدد جغرافي ما، أو بمجتمع إنساني ما، أو بثقافة ما، أو بمنتمٍ لدين ما، حيث يتساوى الجميع في الوقوع في هذا المأزق؛ إن قيّم على أنه مأزق؛ وإلا نظر إليه على أنه حالة حياتية عادية تفرضها ظروف العصر، وتوجه مساراتها سلوكيات الأفراد وفق أهوائهم، وخبراتهم، وما هم مقتنعون به، دون الالتزام بأي مفهوم تربوي أو اجتماعي، يحمل دلالة لهوية معينة، وبذلك تشكل هذه الوسائل تحديا كبيرا لوسائل غرس الهويات وفق المنظور الاجتماعي، الرسمي على حد سواء، وذلك لصعوبة تنظيم العلاقة بين هذه الوسائل، وبين مستخدميها؛ من ناحية، وشيوع المحتوى الواسع الذي تنقله هذه الوسائل إلى مستخدميها من ناحية ثانية، حيث تحل الحرية المطلقة في كلا الحالتين لهذا المستخدم الذي يقبع بين جدران غرفته الأربعة، أو في أي مكان يختلي فيه مع وسيلته المفضلة.

يجثم المقياس المادي في كل شؤون الحياة في كل زمن، وبدوره يخلق تحديات كثيرة، ولم يعد ذلك خافيا، وإن تموضعت بعض القيم؛ متوثبة؛ تنتظر لحظة تحققها والإيمان بها في واقع الناس، لتكون أحد العناوين الفاعلة لتقويم السلوكيات، أو لتحييد الهويات عن الانسلاخ عن قواعدها السليمة، ولكن كل هذا يبقى في إطار ضيق متلبس بمن يؤمن بها، والمؤمنون بأهميتها هم الآخرون يتناقصون بفعل سنة الله في خلقه في مسألة الموت؛ حيث تودع الأجيال هذه الحياة الدنيا حاملة معها مثلها، وقناعاتها، وإيمانها، ومبادئها، فتدفن معها، حيث تبدأ الأجيال في اختلاق أخرى تؤمن بها هي الأخرى في فترة أعمارها، حتى تودع هي الأخرى بذات الصورة التي ودع بها من قبلها، وفي خضم هذه المتتاليات الحياتية، يبرز فقدان الهويات أو تراجعها عن ذروتها المعتادة؛ كما هو التقييم دائما؛ وفي كل فترة زمنية ينحى ذلك على أسباب كثيرة، ولكن يبقى السبب الأساسي هو مجموعة من الأدوات المرتبطة بكل عصر على حدة، فهناك عناوين متجددة في كل عصر، وهي المعبرة عن عصرنتها، والملتحمة مع الأجيال التي تتبناها، وعند التسليم لهذه الرؤية، فإن ما يحدث من تغيرات في سلوكيات الناس وقناعاتهم تبقى في حدود المعقول والمقبول، فالأجيال لا تتناسخ، والقضايا لا يمكن أن تعيد إنتاج نفسها بذات الصورة التي كانت عليها من قبل، وهذا ما يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار.

يبدو أن هناك فريقين من الناس تشكلا لمواجهة العولمة، وهي مواجهة ضدية في جانب، ومتوافقة في جانب آخر، ولكل من هذين الفريقين مواقفه وقناعاته التي يؤمن بها، ولذلك سيظل هناك نزاع قائم ومستمر، سمه صراعا، سمه تحديات، سمه مواجهات، ولكنه يختم عند مآلات العولمة وما تُصَدِّرُهُ للإنسان؛ بغض النظر عن الجغرافيا، أو الدين، أو القيم؛ حيث تتماهى الهويات وتسلم أمرها لهذا المارد الذي يكتسح كل شيء في هذه الحياة، ومفهوم العولمة مفهوم قديم، وإن لم يروج له بالصورة التي عليها الآن، حيث تقوم وسائل التواصل الحديثة بهذا الدور، وبصورة غير مسبوقة، ومعنى هذا أن الهويات هي الأخرى واقعة في مأزق العولمة من حيث انتشار الأضداد، وإيجاد البدائل، وعدم القدرة على التحكم في المحافظة على المعززات التقليدية للحفاظ على الهويات، وهذا كله أمر مفروغ منه، وواضح للعيان، ولا يحتاج إلى إجهاد العقل للبحث عن حلول مطلقة، وإلا وقعنا في مفهوم «دون كيخوته، ومحاربته طواحين الهواء». تحللت الجماعة إلى مجموعة أفراد، فاعتلى صوت الفردانية، وتفككت على أثرها مجموعة الاستحكامات التقليدية التي كانت تعبر عن هوية؛ سواء هوية اجتماعية، هوية سياسية، هوية اقتصادية، هوية ثقافية، هوية أسرية، وما ميلاد الأسر النووية إلا مثال واضح وأكيد لهذا التحلل، وانطلاقا من هذه الأسر المتفردة في كل شيء يخص حياتها اليومية، هي بذلك تخلصت من امتداد الهويات التقليدية، وأصبحت في حال تشكل هويات جديدة معبرة عن عصرها، وعن قناعات أفرادها الذين يبدؤون خطواتهم الأولى نحو الحياة، وظل بيت العائلة الممتد -الذي كان صانعا للهويات في يوم ما- مكانه؛ متهاويا بين جدرانه الأربعة، تتصارع بين جنباته هوياته التقليدية، وقناعات أفراده الذين رحلوا عن هذه الحياة.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني