النمو الاقتصادي ومقاييس التنمية

10 أبريل 2023
10 أبريل 2023

لقد تناولتُ موضوع النمو الاقتصادي والتنمية المستدامة أكثر من مرة في كتاباتي الصحفية. لكنني لا أجد حرجا في العودة إلى الكتابة عنهما بين حين وآخر، ذلك لأن موضوع التنمية وما تعنيه من عدالة تجاه الإنسان وعدم جور على البيئة هو دائما في سويداء القلب ويشغل حيزا كبيرا من اهتماماتي. هذا بالإضافة إلى أنني أرى أن التنمية والاقتصاد «حالة» أو «حال» state، ومن طبيعة الحال التغير والتبدل، إذ إن «دوام الحال من المحال». والاقتصاد كذلك، هو في حال دائم من التوسع والانكماش أو النمو والركود، الأمر الذي يستدعي استمرار البحث فيه ومراقبة تطوره.

لا يكاد يمر ذكر للاقتصاد والتنمية دون أن يذكر معهما مصطلح «معدل النمو الاقتصادي»، للتدليل على مدى قوة أو ضعف الاقتصاد، سواء كان ذلك على صعيد الاقتصاد العالمي أو على صعيد التجمعات الاقتصادية الإقليمية أو على صعيد الاقتصاد المحلي. وكثيرا ما يستدل بالتغير في معدل النمو الاقتصادي، ارتفاعا أو انخفاضا، على مدى نجاح السياسات المتبعة أو فشلها. ولغير المختصين من القراء، من المفيد أن نورد هنا توضيحا للمقصود بمصطلح «معدل النمو الاقتصادي»، وذلك حتى يكون جميع القراء الكرام على دراية بما سيأتي بعد ذلك في سياق هذا المقال. باختصار، يعرف معدل النمو الاقتصادي بأنه نسبة التغيّر في قيمة السلع والخدمات التي تنتج في بلد ما أو منطقة ما خلال فترة معينة، هي في العادة سنة واحدة، وذلك مقارنة بفترة أو سنة سابقة. وقد تكون الفترة أقل من سنة، كما هي في التقارير ربع السنوية. وهذا يعني أن التغير في معدل النمو قد يكون موجبا أو سالبا، أي تغير بالزيادة أو بالنقصان.

من الواضح من هذا التعريف أن مؤشر «معدل النمو الاقتصادي» ينحصر في قياس مدى ارتفاع أو انخفاض قيمة ما يتم إنتاجه في دولة ما، أو في تجمع اقتصادي إقليمي، أو في منطقة جغرافية معينة، أو في الاقتصاد العالمي من سلع وخدمات. وهذا التغير في النمو لا يعكس إلا جانبا واحدا من جوانب التنمية المستدامة في أبعادها الاقتصادية والاجتماعية والسياسية والبيئية.

إن مقياس معدل النمو الاقتصادي، لا يذكر شيئا عن مستوى جودة التعليم وكفاءة مخرجات المؤسسات التعليمية، ولا عن مستوى شمول الخدمات الصحية الأولية أو جودة خدمات علاج الأمراض المزمنة والمستعصية، أو تلبيتها لاحتياجات الأطفال وكبار السن. كما لا يتحدث عن مستويات البطالة ولا عن أعداد الباحثين عن عمل. كذلك لا يشير معدل النمو الاقتصادي من قريب أو بعيد إلى مستوى جودة السكن، ولا يذكر شيئا عن حالات الطلاق ولا عن دور المرأة في الحياة الاقتصادية والسياسية، ولا عن نسبة التلوث ونقاء مياه الشرب والهواء، ولا عن مدى انتشار الربط بشبكات الكهرباء والصرف الصحي، إلى غير ذلك من الجوانب المتعلقة بالإنسان والمجتمع والبيئة.

ونظرا لذلك القصور الكبير في مقياس معدل النمو الاقتصادي لقياس شمول واستدامة التنمية، اعتمدت الأمم المتحدة مقياسا أوسع، هو مقياس «مؤشر التنمية البشرية» HUMAN DEVELOPMENT INDEX. ومنذ عام 1990 يصدر برنامج الأمم المتحدة الإنمائي UNDP تقريرا سنويا بهذا المؤشر، يتم فيه ترتيب الدول على مستوى العالم، حسب أداء كل دولة ومدى تحقيقها للأهداف التنموية الموضوعة. وقد بدأ مؤشر التنمية البشرية الذي وضعته الأمم المتحدة بقياس متوسط العمر المتوقع للإنسان ومستوى التعليم والأمية والمستوى المعيشي للناس على مستوى العالم، ثم تطور بعد ذلك ليشمل عناصر أخرى، وأصبحت كثير من الدول والتجمعات الإقليمية تنشر تقاريرها المحلية عن التنمية البشرية. وقد نشرت الجامعة العربية مثلا، أكثر من تقرير عن التنمية البشرية في العالم العربي.

وفي عمان صدر أول تقرير للتنمية البشرية في عام 2003، الذي تم إعداد فصوله ومحتواه من قبل خبراء مختصين من داخل البلاد وخارجها. وقد أحدث التقرير عند صدوره ضجة كبيرة وصدى واسعا بين المعنيين بالشأن الاقتصادي والتنموي في البلاد. وأذكر أنني حين اطلعت عليه أعجبتُ بل انبهرت بما جاء فيه من وضوح وتفصيل في البيانات وصراحة في الرأي، فاتصلت مهنئا زميلتي الدكتورة راجحة بنت عبدالأمير، رحمها الله، التي كانت حينذاك وكيلة شؤون التنمية بوزارة الاقتصاد الوطني، وهي الجهة التي أصدرت التقرير.

أما التقرير الثاني فقد صدر في عام 2012، وكنت حينها مشرفا على تسيير شؤون وزارة الاقتصاد الوطني، التي كانت قد ألغيت في فبراير من عام 2011. وعند اطلاعي على المسودة النهائية للتقرير، الذي بدأ إعداده ووضع خطوطه العريضة قبل إلغاء الوزارة، لم أكن مقتنعا بما جاء فيه، لكونه كان مواربا في محتواه وغير حاسم في صياغته وأسلوبه. لكن الخبير المكلف بتحرير التقرير ذكر لي أن كل الجوانب التي شملها التقرير الأول قد تم تضمينها في التقرير الثاني، وإنه بأسلوب مختلف لتلافي أي ضجة أو سوء فهم. وحيث إن الوزارة كانت في وضع انتقالي لم يكن بالإمكان إعادة صياغة التقرير أو تحسين محتواه، ليكون بنفس وضوح وصراحة التقرير الأول، فتم نشره على ما فيه من ضعف وقصور في بعض الجوانب. وفي سنوات لاحقة تم إعداد تقرير ثالث للتنمية البشرية في عمان، لكنني لم أطّلع عليه، وربما إنه لم ينشر حتى الآن.

وحيث إننا في مرحلة جديدة وعهد جديد، عنوانهما الشفافية ووضوح الهدف، فإن تحقيق ذلك والوصول إليه يتطلب معلومات وافية وتحليلات علمية بعيدة عن المواربة والمجاملة، خاصة أنه يتم الحديث عن مؤشرات أداء يجري إعدادها لكل المؤسسات والقطاعات. ولما كانت مؤشرات التنمية البشرية هي من المؤشرات العلمية المهمة والأدوات الضرورية لإعداد الخطط التنموية وقياس أدائها فإنه من الضروري استئناف إعداد تقرير التنمية البشرية وإصداره بصورة منتظمة ودورية، وليكن ذلك كل سنتين أو ثلاث سنوات. وإذا كان التخطيط الاقتصادي في البلاد سيستمر كما كان سابقا، أي على أساس خطط خمسية، فإنه من المناسب أن يتم منذ الآن الإعداد لتقرير جديد عن التنمية البشرية لتتم الاستعانة به، مع تقارير تنموية أخرى مثل تقرير التنافسية، في إعداد الخطة الخمسية القادمة.

على أنه يجب أن يؤخذ بعين الاعتبار في إعداده ومحتواه، التطوير الذي أدخل عليه من قبل خبراء التنمية والمنظمات الدولية المتخصصة، وذلك حتى تكون أهداف الخطة الخمسية ومشاريعها منسجمة مع متطلبات التنمية المستدامة بأبعادها الشاملة، ولكي لا تكون نتائج الخطة مجرد نمو اقتصادي. المعلوم أن النمو الاقتصادي وحده، دون مراعاة الجوانب التنموية الأخرى، قد يؤدي إلى توسيع الفجوة في الدخول والثروات وإلى زيادة أعداد المهمشين والفئات الهشة في المجتمع، وذلك مما لا تحمد عقباه.