النفاذية الرقمية لكبار السن

25 مايو 2024
25 مايو 2024

إن بناء اقتصادات رقمية تحقِّق نمو اقتصادي شامل ومستدام تحتاج إلى تعزيز الإنتاجية وفتح فرص عمل، وتقديم منتجات وخدمات مبتكرة تساعد أفراد المجتمع على تحسين أنماط حياتهم وتقديم أفضل الممارسات التي الداعمة للتنمية وتعزيز البنية التحتية التقنية، ولهذا فإن العمل على تطوير ودعم التنافسية في مجالات التكنولوجيا وتحسين القطاع الرقمي بما يتوافق مع التطورات العالمية المتسارعة من ناحية واحتياجات المجتمع من ناحية أخرى، يعتبر من أهم مرتكزات التنمية الحديثة الداعمة لتطوير القطاعات التنموية واستدامتها.

ولهذا فإن النفاذية الرقمية تُعد عنصرا مهما في بناء المجتمعات الحديثة باعتبارها أساسًا لضمان تمكُّن أفراد المجتمع من استخدام التقنيات الحديثة بشكل متساوٍ وعادل، بمن فيهم الأشخاص من ذوي الإعاقة، وكذلك كبار السن، فمع التطورات التقنية المتسارعة، تحرص الدول على تحسين أساليب النفاذية الرقمية، وتطوير آلياتها بما يتوافق ومعطيات المجتمع وحاجاته، فتعمد إلى إعداد سياسات ومبادئ لتلك النفاذية لضمان استخدام التقنية وفقًا لما يحتاجه المجتمع.

لأن الخدمات الرقمية تكون قابلة للنفاذ عندما يتمكن أكبر عدد ممكن من استخدامها بطريقة جيدة وبشكل عادل، لذا فإن العمل على التحوُّل الرقمي في الدول الحديثة عليه أن يواكبه تمكين للنفاذية الرقمية على المستوى المجتمعي كله، فلا يهمنا هنا نفاذ الناشئة والشباب فقط بل يجب أن يكون على مستوى الجنس (ذكور وإناث)، وعلى مستوى الأعمار (الصغار والناشئة والشباب وكبار السن)، وعلى مستوى الصحة (صحيح ومعوق)، وبناء على المستويات التعليمية المختلفة، وهكذا.

إن التحوُّل الرقمي وتقديم الخدمات الصحية والتجارية والتعليمية وغيرها عبر شبكات الإنترنت ومواقعه المختلفة، يحتاج إلى تعزيز النفاذية وتهيئة فئات المجتمع كلها للوصول إلى تلك الخدمات بسهولة ويسر، من خلال التوعية والتدريب وتقديم الدعم المباشر وغير المباشر خاصة للأشخاص من ذوي الإعاقة وكبار السن، باعتبارهم فئات تحتاج إلى رعاية خاصة ومهارات في التعامل والتواصل لتحقيق الأهداف المنشودة.

تخبرنا الأدبيات الأكاديمية أن المعايير التي تقوم عليها النفاذية يمكن إجمالها في مبادئ أربعة هي (قابلية الإدراك، وقابلية الفهم، وقابلية التوظيف، ومتانة المحتوى)، وهي مبادئ نحتاجها جميعا في طريقة تعاملنا مع الوسائط الرقمية والمواقع التواصلية الإلكترونية بأشكالها المختلفة، خاصة تلك التي تتميَّز بتحولات سريعة وتطورات تقنية تفاعلية، ولهذا فإن تطويرها باعتبارها مهارات أساسية يجب أن يتأسَّس ضمن معطيات المجتمع ومدى قدرة أفراده بكافة فئاته على الإقبال نحو تلك التقنيات والمهارات من أجل تيسير أنماط العيش وتلقي أفضل الخدمات الممكنة دون جهد.

ولقد اهتمت دول العالم كثيرا بالنفاذية الرقمية خاصة للأشخاص من ذوي الإعاقة بهدف إدماجهم في المجتمع وتقديم أفضل الخدمات لهم، كما أثبتت الكثير من التقارير مدى تقدم الدول بشكل عام في رعاية هذه الفئة المهمة من فئات المجتمع، ومدى تمكُّنهم كذلك من النفاذ إلى المواقع الرقمية المختلفة وتعاملهم معها بإيجابية كبيرة، في حين أن هناك تراجعًا أو تراخيًا في الاهتمام بالنفاذية الرقمية لكبار السن، على الرغم من أهمية تمكين هذه الفئة بالذات لما تواجهه من تحديات في الوصول إلى الخدمات المرقمنة، سواء بسبب الأمية عمومًا أو الأمية الرقمية بشكل خاص، أو حتى بسبب تسارع تلك التقنيات.

إن النفاذية الرقمية بالنسبة لكبار السن لها أهمية مجتمعية؛ فهي تمكِّنهم من الحصول على حقوقهم الصحية والتعليمية والاجتماعية المختلفة؛ ولعل التسارع الذي نشهده في التحوُّل الرقمي الحكومي يزيد من أهمية هذا النفاذ، ويدعم توجهات الدولة في ضمان تحقُّق أهداف ذلك التحوُّل، فما شهدناه خلال انتخابات المجالس البلدية ثم مجلس الشورى مثلًا، يُعد ظاهرة لافتة ومعزِّزة لأهمية تمكين النفاذ لكبار السن وقدرتهم على الوصول إلى ممارسة حقوقهم الانتخابية دونما وسيط، وهكذا أيضًا الممارسات التقنية الأخرى.

والحق أن عُمان تأتي من بين الدول التي حقَّقت نجاحات مهمة وبارزة سواء على مستوى التحوُّل الرقمي المتسارع، أو على مستوى النفاذية الرقمية؛ إذ أعدتها اللجنة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الإسكوا) في تقريرها (النفاذية الرقمية لكبار السن) -الذي نستعيره عنونا لهذا المقال-، من بين النماذج المهمة في النفاذ الرقمي، فقد أصدرت عُمان (السياسة الوطنية للنفاذ الرقمي) في عام 2022، كما أحرزت تقدما على المستوى الدولي في تقييم النفاذية الرقمية (DARE) منذ عام 2018، وقدمت توصيات ذات أهمية في دعم نفاذ الأشخاص ذوي الإعاقة وكبار السن، وضرورة إشراكهم في عمليات التصميم والاختبار للمواقع والخدمات الإلكترونية.

ولهذا فإن دعم تلك الجهود وإظهار نتائجها من خلال الممارسات الفعلية من قبل كبار السن، يحتاج إلى التشارك والتعاون خاصة من الجهات المعنية برعاية هذه الفئة المجتمعية المهمة، إضافة إلى أهمية دور المحافظات في تعزيز مهاراتهم وتمكينهم من ولوج المواقع الإلكترونية الخدمية وكيفية التعامل معها، والتوعية المستمرة ومساندة أفراد المجتمع والأسرة بشكل خاص لذويهم من كبار السن، وتعزيز قدراتهم التقنية كل بحسب إمكاناته.

إن المهارات الرقمية الخاصة بكبار السن تحتاج إلى خصائص ومواصفات تتلاءم مع قدراتهم وتتفق مع تطلعاتهم وما يحتاجونه من خدمات، ولهذا فإن قياس نفاذهم يعتمد على مدى مواءمة تلك الخدمات الإلكترونية أو المواقع مع قدراتهم وإدراكهم، فاعتمادهم على التقنيات القديمة من ناحية وتسارع التطور التقني الحديث من ناحية أخرى، يوسِّع الفجوة بينهم وبين تحقيق ذلك النفاذ، ويزيد من التحديات التي يمكن أن تواجههم في طريقة التعامل معها، الأمر الذي يحتاج دومًا إلى المراجعة والتطوير بما يتناسب وتلك القدرات.

ولعل التحول الرقمي وجودة الخدمات التقنية، وتوفُّر الأجهزة الذكية، وتعدُّد مواقع التواصل الاجتماعي وانتشارها، جعلت الكثير من كبار السن خاصة ممن يبلغون (60-70) عاما، يستمتعون بتجربة وجودهم على منصات التواصل الاجتماعي واستخدام التقنيات المختلفة للوصول إلى الخدمات والاستفادة منها، الأمر الذي يكشف قابليتهم لتعلُّم المهارات التقنية والانفتاح على الجديد والتفاعل معه بإيجابية، وقدرتهم على التواصل الافتراضي، الذي عزَّزته الظروف الطارئة خلال الأعوام الماضية والتي دفعت مجتمعات العالم كله نحو التقنية بمن فيهم كبار السن، إلاَّ أن هذا النفاذ يقل كلما زادت الأعمار عن السبعين عاما.

لذا فإن النفاذية الرقمية لكبار السن لا يمكن قياسها بوصولهم إلى المواقع والمنصات الرقمية وحسب، بل أيضا بالمحتوى الذي يقدمونه وما يتوفَّر لهم من معلومات وبيانات بطريقة سهلة وميسَّرة، يستطيعون من خلالها تقديم محتوى يتناسب مع هويتهم وثقافة مجتمعهم، ويتوافق مع تطلعاتهم ومستوى خبراتهم في الحياة، ولذلك فإن تهيئة البرامج وتوفير البيانات بطرائق تتناسب مع فئات كبار السن يُعد من أساسيات النفاذ الرقمي، الذي يمكن من خلاله التقييم والتحليل بُغية الوصول إلى مستوى تلك النفاذية واحتياجات تطويرها وتحسينها.

إن التعاون في تمكين كبار السن من النفاذ الرقمي، وتطوير إمكاناتهم في التعامل مع المواقع الخدمية والمنصات الإلكترونية المختلفة واجب علينا جميعا مؤسسات وأفراد؛ ذلك لأنه أحد أهم ممكنات تحسين أنماط حياتهم وقدرتهم على استخدام التقنية بفاعلية وإيجابية، وبالتالي تمكنهم من الوصول إلى الخدمات المختلفة دون الحاجة إلى الوسيط، إضافة إلى استخدامهم للمنصات والمواقع المختلفة والاستفادة مما توفِّره من بيانات ومعلومات موثوقة.