النزاهة...ومؤشر مدركات الفساد

16 يناير 2024
16 يناير 2024

مؤشر مدركات الفساد (Corruption Perceptions Index) يعدّ واحدا من المؤشرات المهمة المضمنة رؤية عمان 2040، وأيضا من المؤشرات التي يشرف على متابعتها المكتب الوطني للتنافسية. هذا المؤشر يندرج ضمن المؤشرات التي تعنى بالحوكمة وتصدره منظمة الشفافية الدولية حيث يغطي (180) دولة حول العالم من بينها سلطنة عمان.

تُقيّم الدول في هذا المؤشر عن طريق جمع البيانات والمعلومات من أكثر من جهة أو منظمة محايدة وذلك باستخدام نموذج استطلاعات الرأي التي تكون تحت إشراف مؤسسات مستقلة. وفي المرحلة الأخيرة من جمع تلك البيانات تقوم منظمة الشفافية الدولية بإعطاء تقييمٍ مكونٍ من (0 إلى 100) درجة، بمعنى أن الدرجة المرتفعة تعطي انطباعًا بأن الدولة أقل فسادًا والحصول على الدرجة المنخفضة بأن الدولة تعدّ أكثر فسادًا.

وحسب التقييم السنوي لعام (2022) لمؤشر مدركات الفساد، حصلت سلطنة عمان على (44) درجة بانخفاض قدره (8) درجات عن عام (2021م) وفي المرتبة (69) دوليا والرابع خليجيا. علّقت منظمة الشفافية الدولية على التقرير بالقول، إن المتوسط العالمي للفساد لم يتغير خلال عقد من الزمن حيث كان عند (43) درجة، كما أن أكثر من ثلثي دول العالم حققت درجات أقل من (50) بالرغم من الدعوات المتكررة لمحاربة الفساد، أيضا هناك ما يقرب من (155) دولة لم تحقق أي تقدم يذكر أو انخفضت درجاتها منذ عام (2012م). كما أن الفساد ليس له علاقة بالتقدم الصناعي للدول، فمن ضمن ترتيب الدول العشر الأوائل في المؤشر حصلت ألمانيا فقط على المركز (9)، بينما جاءت كل من اليابان والمملكة المتحدة في المركز (18) مكرر، والولايات المتحدة في المركز (24) والصين وروسيا في المركزين (65) و(137) على التوالي.

وتتنوع المجالات التي يتمحور حولها الفساد، حيث تأتي الرشوة في المقدمة والمحسوبية في التعيين في القطاعات العامة واستخدام المسؤولين وظائفهم العامة لخدمة المصالح الشخصية مع الإفلات من العقاب، والروتين المفرط في أنشطة العمل بالقطاع العام وعدم تبسيط الإجراءات، ومدى التمكن من الحصول على المعلومات من القطاعات العامة والخاصة.

وتهتم منظمة الشفافية الدولية بأولويات محددة لمحاربة الفساد ويأتي مصطلح النزاهة السياسية (Political Integrity) في قمة هذه الأولويات. بحيث يكون كل شخص يشغل منصبا حكوميا أو أعطى صلاحيات تنفيذية يمارس هذه الصلاحيات وفق ما تقتضيه وظيفته ولا يكرس عمله من أجل زيادة ثرائه المالي أو التمكن من ممارسة سلطته الوظيفية في غير المحدد له قانونا. ويمكن تعزيز قيم النزاهة السياسية عن طريق وضع أنظمة واضحة للتعيينات والانتخابات، بحيث يكون اختيار الموظفين وخاصة المناصب العليا بعيدًا عن تأثيرات المصالح المتبادلة.

وعلى وجه العموم ممكن أن تتضمن النزاهة السياسية آليات وصول القيادات العليا للوظائف بالقطاع العام، وآليات انتخاب أعضاء مجالس الغرف التجارية والصناعية، وانتخابات أعضاء المجالس البرلمانية. وبالتالي المقصد ليس فقط آليات الانتخابات وإنما أيضًا مدى إمكانية محاسبة المسؤولين الذين يتحكمون في القرارات التي تمس الجوانب الاقتصادية وطرق إرساء المناقصات والعقود في حال تلبسهم بأية مخالفات تتعلق بالوحدات التي يشرفون عليها. وحسب تقديرات عام (2010م) فإن الدول النامية تخسر سنويا ما بين 20 إلى 40 مليار دولار بسبب الفساد. هذه المبالغ كان من الأحرى استثمارها في تقديم الخدمات العامة والقضاء على الفقر ورفع مستويات معيشة المواطنين بتلك الدول.

كما يندرج هذا النوع من الفساد بمصطلح تضارب المصالح، وهو التلاعب بالقواعد والإجراءات التي يمارسها المسؤولون الحكوميون أو صنّاع القرار السياسي ومدى قدرتهم على استغلال مناصبهم الوظيفية لتحقيق منافع خاصة.

وعلى الصعيد الوطني، فإن قانون حماية المال العام وتجنب تضارب المصالح حظر على المسؤول الحكومي استغلال المنصب لتحقيق أي منفعة شخصية، كما أن من أهداف عمل جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة هو تجنب وقوع تضارب المصالح حيث منح الجهاز اختصاصًا في البحث في أية شكاوى قد ترد إليه عن الإهمال أو مخالفة القوانين واللوائح والقرارات المعمول بها.

ومجال آخر قد يدخل فيه الفساد وهو مصطلح النزاهة التجارية (Business Integrity) والتي تعدّ من أهم المبادئ لممارسة الأعمال وعقد الصفقات التجارية بين الأطراف سواء القطاعات العامة أو الخاصة أو بين الدول بعضها البعض. وبالتالي تطبيق مبادئ النزاهة التجارية في بنود المناقصات والمشتريات ذات العقود الكبيرة من شأنه أن يعمل على كبح ومنع الفساد على مستوى الدول. وتتضمن النزاهة التجارية أيضا بالتهرب الضريبي والتلاعب بالقوائم المالية وإنشاء الشركات العابرة للحدود، أو الدول التي تتخذ ملاذات آمنة للتهرب الضريبي لأنه يؤثر سلبًا على عدم المساواة في المعاملات الضريبية وأصبح منتشرا حتى في الدول التي تحصل على درجات أعلى في مؤشر مدركات الفساد. فعلى سبيل المثال، الولايات المتحدة لديها أفضل الممارسات في تطبيق سيادة القانون، ولكن تكثر فيها حالات التهرب الضريبي بشكل واسع في الشركات حتى التي يملكها الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب المتهمة بالتهرب الضريبي، الأمر الذي يعزى لغياب النزاهة التجارية والسياسية.

وعلى المستوى الوطني فإن هناك تشريعات وأدلة صدرت خلال الفترة الماضية تتضمن ما يتصل بمنع ومكافحة الفساد جاءت في أحد عشر مرجعا، منها ما يتعلق بالانضمام لاتفاقيات دولية وعربية، وبعض منها يتعلق بالقوانين الوطنية على سبيل المثال، قانون الرقابة المالية والإدارية للدولة وقانون حماية المال العام وتجنب تضارب المصالح والذي هو في طور التعديل لكي يتوافق مع اتفاقية الأمم المتحدة لمكافحة الفساد التي انضمت إليها سلطنة عمان في (2013م). كما يلاحظ بأن هناك تطورًا في صياغة التقارير السنوية التي يصدرها جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة عند مقارنة تقريري (2020 و2022)، من حيث البعد عن العموميات في سرد الملحوظات والمخالفات إلى الإفصاح الاسمي للجهات التي تخصها تلك المخالفات. هذا التغيير يتوافق مع مبادئ الإفصاح كما أنه يعطي مشاركة أفراد المجتمع لتقييم الخدمات الحكومية ومدى تمسكها بالأنظمة وأيضًا لمتخذي القرار لقيامهم بمتابعة تلك الملحوظات والتأكد من استيفائها حسب درجة خطورة كل ملحوظة.

في المقابل فإن انخفاض مؤشر سلطنة عمان في مؤشر مدركات الفساد بمقدار (8) درجات عام (2022)، قد لا يتوافق مع شمولية إجراءات الضبط المالي وإعادة هيكلة الجهاز الحكومي. وقد يكون هذا التراجع سببه الحاجة إلى إعطاء جوانب الشفافية في مستوى البيانات التي يتم تبادلها مع المنظمات والجهات التقييمية لكي تكون تلك الجهات على اطلاع مستمر بالجهود التي تبذل في هذا المجال.

كما أن الخطة الوطنية للنزاهة (2022 - 2030) التي يشرف عليها جهاز الرقابة المالية والإدارية للدولة، بها مرئيات وأهداف جيدة ومؤشرات تتكامل مع رؤية عمان. ولكن قد يكون من المناسب أيضًا التحديث المستمر لهذه الخطة لمعرفة أين وصلنا في مؤشرات مكافحة الفساد ومعرفة أين يكمن الخلل في أسباب ذلك التراجع في مؤشر مدركات الفساد والذي لا يتناسب كما أشرنا والجهود المبذولة على المستوى الوطني، لكي نصل للأداء المستهدف بنهاية (2030م) وهي الوصول للدرجة (63) في مؤشر مدركات الفساد أو من أفضل (30) دولة على مستوى العالم.

‏ د. حميد بن محمد البوسعيدي خبير بجامعة السلطان قابوس