المهارات والوظائف الإبداعية

16 مارس 2024
16 مارس 2024

إن المهارات مفهوم قائم على القدرات والإمكانات التي يمتلكها الفرد، والتي يستطيع من خلالها استخدام معارفه بطريقة مسؤولة، ومناسبة للمواقف والقيم، وقادرة على التفاعل الإيجابي، والمساهمة في تطوير المشاركة وتنمية الإبداع بطريقة يمكن خلالها تلبية متطلبات المجتمع وسوق الأعمال من ناحية، ومواكبة التطورات الصناعية والتقنية بل وحتى الاجتماعية والثقافية من ناحية أخرى.

فالمهارات بأنواعها سواء أكانت معرفية أو اجتماعية أو عاطفية، أو بدنية أو عملية أو إبداعية وابتكارية أو غير ذلك، تقوم جميعها على قدرة الأفراد على مواكبة تطلعات المجتمع والانفتاح على الآخر، بما يضمن تطوير تلك المهارات، فمع هذا الانفتاح الهائل على العالم عبر منصات وقنوات واسعة، والتطور الضخم الذي تشهده التقنيات الحديثة، تشكِّل المهارات إحدى أهم ركائز التنمية البشرية وتطوير الموارد الإنسانية، بما تمثِّله من قيمة مضافة على مستوى التطوير المعرفي وتنمية سوق العمل، وإشراك هذه الموارد في التنمية الوطنية، ومساهمتها في تنفيذ أهداف الرؤى المستقبلية.

يبدأ الاستعراض السنوي لأهداف التنمية المستدامة 2024 (تنمية المهارات وتحفيز الابتكار ودور القطاع الخاص في المنطقة العربية)، الصادر عن لجنة الأمم المتحدة الاقتصادية والاجتماعية لغربي آسيا (الأسكوا)، بدراسة التوافق بين الابتكار وتنمية المهارات وتحقيق أهداف التنمية المستدامة من جهة، ودور القطاع الخاص في الدول العربية في دعم ذلك التوافق وتعزيزه من جهة أخرى، وهو أمر يشكِّل ركيزة أساسية وداعما لدور الحكومات وما تقدمه من تمكين وتسهيلات في سبيل تنمية رأس المال البشري ودعم مشاركته الفاعلة في تحقيق الأهداف الوطنية، ورفد سوق العمل بالمهارات والقدرات المناسبة لمسيرته المتسارعة والمتحوِّلة.

ولهذا فإن التركيز على دور القطاع الخاص في تنمية الموارد البشرية ينطلق من أهمية القوى العاملة الماهرة التي تُعزِّز التنافسية وتحقِّق النمو المستدام للمؤسسات وبالتالي للمجتمع، فالمؤسسات التي تتبنى التكنولوجيا مثلا وتحفِّز الابتكار وتستثمر في تنمية المهارات، تُسهِم في تعزيز قدرتها على التكيُّف وتدفع الأفراد إلى المشاركة الفاعلة في تحقيق أهداف التنمية على المستوى الوطني بل وحتى الدولي، خاصة في مجالات التعلُّم مدى الحياة، وتنمية فرص العمل اللائق، وتعزيز المستوى المعيشي والرفاه الاجتماعي، إضافة إلى المساهمة في تطوير الصناعات المحلية ومستويات الإبداع والابتكار.

إن استعراض الأسكوا يقدِّم دور القطاع الخاص في المرحلة التنموية المقبلة باعتبار ما يؤديه من تفاعل محوري في تنمية المهارات، وما يسهِم به من خلال البرامج التدريبية التي يقدمها للعاملين سواء ممن كانوا على رأس عملهم أو أولئك الذين يتدربون من أجل التوظيف، وهو دور أساسي يدفع التقدم الاقتصادي ويزيد من تعزيز أهداف التعلُّم مدى الحياة، والتعاون بين القطاعات والمؤسسات التعليمية والأكاديمية، وبالتالي فإن هذا الدور يقوم على المواءمة بين تنمية المهارات واحتياجات سوق العمل وتطلعات المجتمع وأهدافه خلال المرحلة المقبلة التي تتأسس عليها رؤيته الوطنية.

يفاجئنا الاستعراض بأن (التراكم المحدود للمهارات وعدم التطابق في مهارات القوى العاملة تحديا يعوق عمل الشركات ويقيِّد النمو والتنمية المستدامة في العديد من البلدان العربية)، فإذا أردنا تفعيل إمكانات الشباب وتعزيز القدرات التنافسية للمؤسسات، فلابد من (بناء مخزون من المواهب وتهيئة بيئة مؤاتية لبناء المهارات على نطاق أوسع وبمستوى أعلى من التنوُّع وقابلية التكيُّف)، الأمر الذي سيساعد المجتمعات على تطوير القدرة على التفاعل المرن مع ديناميات سوق العمل المتغيِّرة، ويهيئ المواهب إلى اكتساب مهارات جديدة ليست مناسبة لسوق العمل فقط، بل إنها قادرة على فتح فرص جديدة للأعمال خاصة تلك المرتبطة بالابتكار والإبداع.

ولأن القطاع الثقافي عموما والإبداعي بشكل خاص يرتبط بالتقنية ومتغيرات السوق وتقلباته، فإن هذا القطاع تحديدا يمثِّل أولوية من حيث أهمية تنمية مهارات رأس المال البشري، وتطوير إمكاناته بما يتواكب مع التطورات التقنية المتسارعة، وقدرتها على ولوج مجالات هذا القطاع والتأثير فيه من حيث القيم والمعارف، إضافة إلى إمكاناتها في تغيير الإنتاجية وزيادة فرص النمو والتنمية الثقافية والاقتصادية للمبدعين والعاملين في القطاع.

إن القطاع الثقافي باعتباره مؤثرا وداعما ومعزِّزا للقطاعات التنموية، يمر بمنعطفات وتحولات مهمة تتواكب مع التطورات التقنية، وتتواءم مع متغيرات سوق الأعمال، وتقدِّم إمكانات وفرص جديدة للصناعات الإبداعية والمهن الثقافية بل وحتى المهن المساندة لها، ولهذا فإن التدريب وتنمية المهارات الخاصة بهذا القطاع لا تقل أهمية عن تلك التي تتطلبها القطاعات التنموية الأخرى، فالتحولاَّت في هذا القطاع أسرع وأكثر انفتاحا وتطلعا نحو التغيير والتطوُّر القائم على الفرص.

يُعد هذا القطاع من المجالات الواسعة المتميِّزة بما يُسمى بالمهارات الشخصية والمهارات الصلبة، التي تتطَّلب قدرات على المستوى الفردي وتلك المرتبطة بالمواهب والإبداع، إضافة إلى مهارات التواصل والذكاء التقني المرتبط بالثورة الصناعية الرابعة، وكذلك الإفادة مما يقدِّمه اليوم الذكاء الاصطناعي من تطوير للمهارات الإبداعية وقدرته على تنمية آفاق الابتكار في مهارات المبدعين، خاصة على مستوى الصناعات الإبداعية، وتوفير فرص متعددة في نطاق الوظائف الإبداعية.

ولهذا فإن الدور الذي يقدمه التدريب في هذا القطاع لا يقل أهمية عن ذلك الذي يقدمه في القطاعات التنموية الأخرى، ذلك لأن هذا القطاع يتميَّز في الأساس بتوفُّر المبدعين والمواهب التي يقوم عليها رأس المال البشري، لذا فإن تنمية هذه المواهب، وتحويلها إلى فرص ومهارات قادرة على ولوج سوق العمل، بل متمكنة من تأسيس مشروعات إبداعية ذات جدوى اقتصادية وقيمة مضافة على المستوى الاقتصادي، يُعد من الممكنات التي يمكن أن يضطلع بها القطاع الخاص المعني بتنمية المهارات والمواهب.

إن تنمية المهارات ودعم تطورها في القطاع الثقافي ضرورة أساسية لتطوير الصناعات الإبداعية، فإذا أردنا تأسيس مجالات صناعية حقيقية في القطاع الثقافي، فإن علينا إشراك القطاع الخاص ليس باعتباره داعما ومحفزا للإبداع وحسب، بل بما يمثِّله من أساس ومرتكز خاصة تلك المؤسسات المعنية بالتقنية والابتكار بل وحتى المؤسسات الصناعية التي تعمل ضمن نطاق المجالات الثقافية، فهذه المؤسسات تشكِّل أساسا لتنمية الابتكار في القطاع، وتحويله إلى صناعات من ناحية، وتضطلع بتأهيل المبدعين وتدريبهم على مهارات المستقبل الأساسية القائمة على الابتكارات التقنية والمهارات المرتبطة بالثورة الصناعية الرابعة.

لقد عانى قطاع الإبداع من التحديات وما زال يعاني من العوائق التي جعلت الكثير من المبدعين يتوجهون إلى الوظائف العامة، تاركين الوظائف الإبداعية القادرة على فتح الفرص الجديدة في سوق العمل، بل عمد بعضهم إلى التخلي عن الإبداع نفسه، واتجه إلى السعي وراء لقمة العيش. إن هذا التوجُّه لا يخدُم توجهات الدولة في تنمية القدرات والاستثمار في الثقافة وتنميتها بما يتوافق مع معطيات وأولويات الرؤية الوطنية، وعلى الرغم من الجهود الحثيثة التي تقدمها الحكومة في تنمية المواهب والمهارات، إلاَّ أن هذا الدور يجب أن يواكبه دعم واضح من المؤسسات في القطاع الخاص والمدني أيضا حتى يتشكَّل ضمن مفاهيم تنمية المهارات ودعم الابتكار.

إن دعم المهارات الثقافية يقوم على تنمية رأس المال البشري الذي تتميَّز به سلطنة عُمان، والذي دعمته الدولة الحديثة منذ تأسيسها، وقدمته باعتباره أصلا من أصول الدولة، وهو اليوم في ظل هذه المتغيرات يحتاج إلى دعم مختلف ورؤية قادرة على تشكيل مهارات منافسة في سوق العمل، فالتنمية الثقافية في ظل المتغيرات الحديثة لا تضطلع بالمشاركات في الفعاليات والمنتديات العامة وحسب، بل بما تقدمه تلك المشاركات وما تُسهم به في تحسين دخل الأفراد واعتمادهم عليها في تطوير سبل عيشهم من ناحية، وتعزيز مهاراتهم بالكفايات الجديدة من ناحية أخرى.

فتبني التفرُّغ الإبداعي، ودعم التعليم في المجالات الإبداعية، والتأهيل والتدريب على مهارات المستقبل للموهوبين في هذا القطاع، يشكِّل أساسا تقوم عليه التنمية الحديثة، فرأس المال البشري في القطاع الثقافي يُعد أحد أهم مرتكزات التنمية القادرة على فتح فرص عمل جديدة وتطوير آفاق القطاع ورؤيته الاقتصادية، وما يمكن أن يحققه في سبيل تحقيق الرفاه الاجتماعي للمبدعين وبالتالي للمجتمع.

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة