المقال الخمسون: الانتصار للتواصل

19 أبريل 2022
19 أبريل 2022

سعت هذه المساحة الأسبوعية - وهي تكمل أسبوعها الخمسين اليوم - إلى الإسهام في تأصيل علم التواصل Communication الذي يشهد تغيرات وتطورات بشكل متسارع أكثر من أي وقت مضى، الذي بات أيضا أكثر اندماجا في الحياة اليومية للمجتمعات بمستوى أدى إلى تعدد جوانب استخداماته، وتنوع ممارساته، وتباين تأثيراته، واهتمام أطراف أكثر به كوسيلة لنقل الأفكار، وجمع البيانات، وتحقيق الأجندات، باعتبارها نتيجة نهائية: التأثير في المجتمعات. ويمكن القول بأن ذلك الاندماج قد أدى إلى تمييع علم التواصل مع وجود أطراف أكثر ضمن المنظومة المكونة له (المرسلة والمتلقية والناقلة)؛ خصوصا مع تعدد الأدوار التي يمكن أن يؤديها كل طرف وفق ذات التصنيف الأصلي لمكونات عملية التواصل بحيث يكون الطرف مرسلا أحيانا ومتلقيا أحيانا أخرى مع ظهور التواصل متعدد الاتجاهات خلفا للتواصل ثنائي الاتجاه وقبله التواصل أحادي الاتجاه.

إذن فإن من الواضح أن هنالك حاجة ملحة لعملية مستمرة من التأصيل لهذا العلم تواكب مدى تأثير المتغيرات عليه من تقنيات وممارسات وأغراض استخدام جديدة، هذه العملية تقع مسؤوليتها على الأطراف الرئيسية فيه من أفراد عاملين وأكاديميين ومختصين أو جهات تعليمية أو إشرافية. إن السعي للاهتمام بالتواصل - علما ومجالا - بمثابة الانتصار له مع تقاذفات أمواج التطورات التقنية والتغيرات السلوكية من جهة وميل غير العاملين فيه للإملاء أو الإفتاء بما يؤثر في قوته وإيجابية النتائج المرجوة منه. وتنبع أهمية هذا الانتصار من كون منصات وقنوات التواصل والإعلام هي المجال الحاوي لكل ما نشهده في حياتنا اليومية من تفاعلات وتدافعات للأسوأ أو للأفضل، فهي مجال ممارسة الأعمال ومشاركة المعارف والتواصل البشري من جهة، وهي أيضا ساحة للمواجهة والتضليل ونقل أبشع صور الصراعات البشرية من جهة أخرى.

وإلى جانب الاهتمام بالجانب العلمي للتواصل فإن الجانب التطبيقي يتطلب من التمكين ما يؤهله لأداء الدور الحيوي في تقدم المجتمعات والأوطان والبشرية بشكل أوسع. وكما تقع مسؤولية ذلك التمكين على عدة أطراف، فإن نطاق ذلك التمكين تشمل أطرافا مختلفة أيضا وفي أوجه متعددة. ويمكن البدء عند الحديث عن ذلك التمكين بالأفراد سواء أولئك العاملين على ضفتي القطاع: جانب التواصل المؤسسي - وهي الفرق القائمة على عملية التواصل ضمن المؤسسات بمختلف أنواعها - وجانب منصات ووسائل التواصل والإعلام، التي تم التطرق لجوانب تمكينها في أكثر من مرة ضمن هذه المساحة من أجل اكتساب أولئك الأفراد المهارات المتجددة التي تواكب التطورات المشار إليها أعلاه، وكذلك لضمان وجود الفرص الوظيفية والسلالم المهنية الممكّنة والمحفزة لبذل المزيد والتطلع إلى نمو أولئك الأفراد ككوادر مؤهلة وذات كفاءة، وقبل كل ذلك ضمان مواكبة البرامج التعليمية المرتبطة بهذا المجال في مختلف المراحل للتطورات التي يشهدها التواصل على المستويين العلمي والتطبيقي. في المقابل فإن من المهم أن يعمل أولئك الأفراد ضمن مجال التواصل ضمن أطر مهنية وأخلاقية بما يعزز من الدور الإيجابي المنوط بهم ويقلل من التأثيرات السلبية التي قد تستفحل في ظل غياب ما ينظم الأبعاد المهنية والأخلاقية خارج المنظومة التشريعية والنظم الإدارية.

أما على مستوى المجموعات وبالنظر إلى القطاع من ذات الزاوية - ضفتي التواصل المؤسسي ومنصات ووسائل التواصل والإعلام - فإن التمكين المأمول بالنسبة لفرق التواصل والإعلام في المؤسسات يتركز في عدة محاور أهمها التمكين الهيكلي بحيث تتمتع بالصلاحيات التي تضمن أداء دورها دون إبطاء أو تهميش، والتمكين من الحصول على المعلومة ضمن المؤسسة على مختلف المستويات، ووجود السياسات واللوائح التنظيمية الداخلية التي تنظم عمل تلك الفرق وتوضح مجالات عملها ومتطلباته وآليات التنفيذ، إلى جانب التمكين المادي والتقني والبشري المتمثل في المخصصات المالية والأجهزة والمعدات والقدرة على استقطاب الكفاءات المناسبة.

أما في جانب منصات ووسائل التواصل والإعلام فإن جوانب التمكين لها يمكن تلخيصها في ضمان وجود البيئة التنظيمية Regulatory Environment التي تتسم بوضوح الأدوار التي تحوي القوانين واللوائح التي تضع نمو القطاع وازدهاره في الاعتبار إلى جانب الاعتبارات الأخرى التي يتطلبها تنظيم قطاع غاية في الحساسية والتعقيد. إضافة إلى ذلك فإن من المهم أيضا وجود الممكّنات التي تسهم في استدامة المؤسسات الإعلامية بالنظر إليها ككيانات تجارية تسعى إلى تعزيز إيراداتها المالية وإدارة مواردها بالشكل الأمثل، بما في ذلك تطوير نماذج أعمال تواكب الواقع وتستشرف المستقبل وتحسن إدارة الموارد ضمن المؤسسة.

أما على مستوى الدول ككل فإن مما يستحسن التنبه إليه الدور الذي يؤديه قطاع التواصل والإعلام ضمن الدول أنفسها، كونه بات الوعاء الذي يضم كل مناحي العمل المؤسساتي وتطلعات المجتمع تجاه المؤسسات والساحة - والمساحة - التي تجمع مختلف المشاعر والأفكار وتعكسها بما يؤثر في الصورة الذهنية للمؤسسات والحكومات ككل. كما يمكن القول إن الدول تمتلك من الطاقات الكامنة التي لا يمكن أن تطلقها دون إيجاد المكانة المناسبة لقطاع التواصل والإعلام التي تعكسها مكانة المؤسسات القائمة عليه والعاملين فيه ومدى الاهتمام بتوفير المخصصات المالية التي تضمن تنافسية الدولة ضمن أقاليمها وبين مختلف دول العالم من أجل تحقيق الأهداف المرتبطة باستقطاب الاستثمارات الأجنبية وجذب السياح والانفتاح الإعلامي عالميا بما يرسم صورة إيجابية تسهم في تعزيز وترسيخ سمعة الدولة وتمكنها من تحقيق رؤاها وتطلعاتها في أن تكون في مصاف الدول المتقدمة.

أما فيما يتعلق بتمكين القطاع عبر غير العاملين فيه فإن التوعية المستمرة بمتطلبات نجاح ممارسات التواصل والتفريق الواضح بأن التواصل علم أصيل وممارسات متأسسة وليس إحدى ممارسات الحياة اليومية التي قد يقوم بها الفرد عبر وجوده الشخصي في منصات التواصل الاجتماعي، كما أن ما يحكم ممارسات التواصل ليس بالضرورة ذاته ما يحكم المجالس التقليدية، ولذلك فإن من غير المنصف النظر لمنصات التواصل بالطريقة ذاتها.

بدر بن عبدالله الهنائي مهتم بالاتصالات الاستراتيجية والهوية المؤسسية