اللغة العربية والهوية: رؤية فلسفية
30 ديسمبر 2025
30 ديسمبر 2025
خلال الأيام الأخيرة من عام 2025 انعقدت ندوات واحتفاليات عديدة بمناسبة اليوم العالمي للغة العربية، ومنها الندوة المهمة التي انعقدت مؤخرًا بمتحف الحضارة في مصر، والتي نظمتها السفارة العُمانية بالقاهرة بمشاركة إدارة متحف الحضارة ومَجمع اللغة العربية ومؤسسة الأزهر.
ولقد تلقيت دعوة من سعادة السفير عبد الله الرحبي للمساهمة في فاعليات هذه الندوة، فألقيت كلمة بعنوان «اللغة والهوية: رؤية فلسفية».
وقد حظيت هذه الندوة بحضور الكثير من أصحاب المعالي والسعادة الحاليين والسابقين، فضلًا عن نخبة من الشعراء وجمهور واسع من المثقفين. والحقيقة أن اختيار مكان انعقاد الندوة في متحف الحضارة (أو متحف المومياوات) هو اختيار موفق له عندي دلالة رمزية بالغة الأهمية؛ فإذا كنا أصحاب حضارات عريقة فإن حضاراتنا القديمة قد تواصلت في حقب عديدة لعل أهمها الحضارة العربية التي امتدت من المشرق العربي إلى بلاد الأندلس، ومنها إلى أوروبا.
ولقد تألقت وسادت اللغة العربية في تلك الحقبة؛ ببساطة لأن اللغة تسود حينما تسود الحضارة، وهذا ما أكد عليه ابن خلدون حينما ذهب إلى القول بأن اللغة السائدة هي لغة الغالب. ولكننا فقدنا تلك المكانة التي كانت لنا منذ أكثر من سبعة قرون؛ فهل يحق لنا الاحتفاء باللغة العربية في عصرنا هذا الذي تدهورت فيه اللغة مثلما تدهورت حضارتنا، أم أن المطلوب هو إحياء تلك اللغة باعتبارها مكوِّنًا رئيسًا في ثقافتنا وحضارتنا، ومن ثم هويتنا؟
من هذا المنطلق كانت مداخلتي في هذا الموضوع المهم. وهو منطلق يـتأسس على تأكيد الصلة الوثيقة بين الهوية واللغة بوجه عام، ويسعى بعد ذلك إلى النظر في واقعنا الراهن على أساس من تلك الرؤية.
حينما نتحدث عن الصلة بين اللغة والهوية فإننا نتحدث عن ماهية اللغة عمومًا؛ فاللغة التي نعنيها هنا ليست هي اللغة التي نستخدمها كأداة للتواصل أو لنقل الأفكار والمعلومات، وإنما هي اللغة التي تجعل رؤيتنا للعالم والوجود حاضرة في اللغة ذاتها؛ ذلك أن اللغة لا تفصح عن هويتها في أي شكل ما من الأشكال المتداولة والمألوفة لاستخدامها. فاللغة هنا لا تتجه إلى الخارج، وإنما تجلب الخارج والوجود نفسه إلى داخل اللغة، أي تجعله حاضرًا في اللغة ذاتها، ومن هنا يمكن أن نفهم مقولة هيدجر البليغة: «اللغة مَسْكن الوجود».
تبلغ هذه اللغة ذروة تحققها في الشعر الذي هو فن اللغة على الأصالة باعتباره أكثر الفنون قدرةً على التعبير عن الوجود والحياة كما يتجلى في لغة ما.
غير أنه من الضروري هنا أن نلاحظ أن اللغة الشعرية لا تقتصر على الفصحى وحسب، وإنما تشمل أيضًا اللغة العامية البليغة في حالة الأغنية؛ لأن اللغة الشعرية هنا بأسلوبها اللحني الخاص في نطق الكلمات والتغني بها تُضفي على اللغة المقولة دلالات بالغة الخصوصية، وتُلون معانيها بألوان مشبعة بروح الوطن ورحيقه وروائحه.
***
كيف نطبق ذلك على واقعنا الراهن؟
حينما ننظر إلى اللغة العربية المستخدمة في واقعنا الراهن -خاصةً في دول شمال إفريقيا لا سيما مصر- فإننا يمكن أن نلاحظ شواهد وأمارات عديدة على تدهورها. أبسط هذه الشواهد هو أخطاء اللغة الفادحة في سائر الإعلانات واللوحات الإرشادية المستخدمة في المؤسسات الرسمية والإعلامية -لاسيما إعلانات المرور-؛ إذ نجد الأخطاء الفادحة حتى فيما يتعلق باستخدام الهمزة التي ينبغي إخفاؤها في الكتابة والنطق، والتي تُعرَف بهمزة الوصل لا القطع، وهذا ما نجده في مداخل البنوك والمؤسسات؛ إذ نجد لوحة إرشادية تحمل عنوان «الاستقبال»، ولكنها مكتوبة بهمزة تحت الألف، وتُنطق على ذلك النحو الخاطئ. ومن المدهش أن مثل هذا الخطأ شائع حتى في المؤسسات التعليمية العريقة! وكم نبهت إلى مثل هذه الأخطاء التي لا تراعي مبادئ اللغة، والتي لها تأثير بالغ الضرر على الطلبة وعموم الناس؛ إذ يترسخ في أذهانهم أن هذا هو النحو الصحيح في استخدام اللغة.
ومن الشواهد الأكثر شيوعًا استخدام كلمات أجنبية وأعجمية في عناوين المحلات والشركات والمؤسسات، أو كتابة صوتيات الكلمات العربية بحروف أجنبية! وإذا كانت هذه الظاهرة موجودة في مصر فإنها موجودة أيضًا في الدول المغاربية؛ حيث إن اللغة هنا تصبح (مُتفرنسة) في الفضاء العام؛ فهي تأتي بالفرنسية غالبًا، أو في خليط هجين بين الفرنسية والعربية، أو في كلمات أعجمية.
وحتى على مستوى الخط العربي؛ فإن الخط المُستخدم الآن لا يكاد يُقرأ بعد تاريخ طويل للغاية من تحسين الخطوط التي أسهمت فيها فيما مضى مدارس خاصة في مصر وغيرها تُعرف «بمدارس تحسين الخطوط».
ومن أسف أن تعليم الخط العربي قد اختفى من مدارسنا. ولا شك في أن عُمان هي من الدول العربية القليلة التي تحرص على العناية باللغة العربية حتى في مجال الخط العربي، وأذكر هنا خبرتي الأولى بتوقيعات الطلبة الذين كنت أدرس لهم في عُمان؛ إذ كان كل توقيع يبدو كزخرفة من فن الخط العربي.
ولا غرابة في ذلك؛ لأن عُمان تحمل إرثًا ثريًّا من أساطين اللغة الذين أسهموا في تأصيل اللغة العربية في كل مناحيها: النحوية والصرفية والبلاغية والشعرية، ولقد حافظت عُمان على هذا الإرث.
والحقيقة أن مصر كانت رائدة أيضًا في إحياء بلاغة اللغة العربية وحضورها في المشهد الثقافي المعاصر من خلال مفكريها وأدباءها وشعرائها العظام، ويكفي في هذا الصدد أن نذكر من بين هؤلاء عميد الأدب العربي: طه حسين. ولكن ينبغي التأكيد أيضًا على أن دور مصر قد تراجع كثيرًا في هذا الصدد، وانتقل هذا الدور إلى بلاد الشام، وتحديدًا: فلسطين وسوريا والعراق.
ولقد أدهشني كثيرًا حضور بلاغة اللغة العربية لدى أبناء فلسطين؛ فقد شاهدت في القنوات الإخبارية في أثناء الحرب الوحشية الصهيونية على شعب فلسطين أطفالًا وطفلات يعبرون عن معاناتهم بلغة عربية فصيحة بليغة لا نستطيع نحن أن نتحدث مثلها.
هذا مقال مواطن عربي غيور يطالب بتعليم اللغة العربية المستقيمة ناهيك ببلاغتها. ومفاد قولي من هذا المقال أن التوصيات المهمة التي تنشأ عن الندوات التي تحاول إصلاح تدهور أحوال اللغة العربية هي توصيات ينبغي أن تنتبه إليها الحكومات في عالمنا العربي، وأن تأخذها على محمل الجد؛ فإحياء اللغة ينبع دائمًا من شعور خفي عميق بإحياء الهوية والحضارة ذاتها.
