اللعب بين الكبار يدمر الدول الأصغر !!

26 ديسمبر 2022
26 ديسمبر 2022

يشير الكثير من التحركات والدلائل بوضوح إلى أن التطورات في الحرب الأوكرانية تتجه نحو التصعيد في الفترة القادمة، وجاءت الزيارة القصيرة التي قام بها الرئيس الأوكراني لواشنطن، حيث التقى الرئيس بايدن، وألقى خطابا أمام االكونجرس، ثم زيارته لبولندا في طريق عودته إلى بلاده، تحمل ما يؤكد التصعيد، ليس فقط من جانب الولايات المتحدة التي استضافته، وخصصت له مساعدات بنحو 1.85 مليار دولار منها صفقة صواريخ باتريوت المعروفة بأنها صواريخ حماية البيت الأبيض والبنتاجون والكونجرس ضد الطائرات المعادية، ولكن أيضا من جانب زيلينسكي الذي لا يكاد يمر يوم دون أن يطالب بالأسلحة والمعونات المالية.

والمؤكد في الوقت ذاته أن لروسيا نصيبها في الدفع نحو التصعيد، وذلك عبر الغارات الجوية وهجمات الصواريخ التي تمتد لمناطق أوكرانية عدة، وفي تطبيق لاستراتيجية الأرض المحروقة، أو على الأقل التدمير الواسع النطاق للبنية التحتية ولمواقع القيادة العسكرية ولمراكز الصناعة على نحو واسع ومدمر لحاضر ومستقبل أوكرانيا أيضا. وإذا كان الشعب الأوكراني يدفع الثمن، ثمن إدارة قيادته للمعركة والخلافات مع روسيا، فإن شعوبا ودولا كثيرة في أوروبا وعلى امتداد العالم تدفع هي الأخرى أثمانا مختلفة ومتفاوتة للصراع والتنافس الذي يظل غير مباشر، حتى الآن على الأقل، في أوكرانيا والذي يتدحرج ككرة الثلج نحو مناطق تزداد خطورة بشكل حقيقي، وتشير تصريحات الرئيس الروسي وغيره إلى تزايد القلق مع استمرار الحرب.

وفي هذا الإطار، وكذلك زيارة زيلينسكى لواشنطن، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، منها أولا؛ أنه إذا كانت أوكرانيا قد حرصت على الاستفادة إلى أقصى مدى من التنافس الروسي الأمريكي ومن رغبة واشنطن وحلف الأطلنطي وأوروبا الإضرار بروسيا وإنهاكها في المستنقع الأوكراني، وهو ما وضعت نفسها في خدمته، ربما دون وعي كاف، فإنه لا يمكن إغفال أن خسائر أوكرانيا تفوق إمكانية احتمالها لها، سواء في الحاضر أو في المستقبل، ولن يخفف من هذه المأساة الحديث عن إمكانية مساعدة الغرب والمنظمات الدولية في عملية إعادة الإعمار بعد نهاية الحرب، خاصة وأن عشرات مليارات الدولارات الأمريكية والأوروبية احترقت في أتون الحرب خلال الأشهر الماضية وهو ما سيستمر ربما لشهور عدة في العام الجديد وسيكون ذلك بالطبع على حساب الإمكانيات المتاحة لعمليات إعادة الإعمار. ومع الوضع في الاعتبار أن ازدياد تدمير روسيا لأوكرانيا قد يزيد من الشعور الأخلاقي الغربي حيال أوكرانيا ومن ثم الالتزام بمساعدتها، إلا أن الاستنزاف الأمريكي والأوروبي بدأ يظهر في حجم ونوعية المساعدات التي تقدم الآن إلى أوكرانيا، وكذلك في الخطاب السياسي الأمريكي والأوروبي فيما يتعلق بتحبيذهم للتفاوض وللحل السلمي، على أن تقرر أوكرانيا ما يناسبها في هذا المجال، وحتى لا تتحمل أوروبا وأمريكا مسؤولية مباشرة، برغم مسؤوليتهما المباشرة في إفشال جولات التفاوض السابقة وتشجيع كييف على الاستمرار في حرب تقسم عمودها الفقري بالفعل.

إن قيام زيلينسكى بزيارة واشنطن خلال العمليات الحربية لم يكن ممكنا لولا تأمين واشنطن لها كاملا. وإذا كانت الزيارة في هذه الظروف تشير بوضوح إلى رغبة الرئيس الأوكراني في التصعيد في الفترة القادمة، اعتمادا على الأسلحة الأمريكية والغربية بالطبع، فإنها تشير أيضا إلى أن زيلينسكى يريد الإبقاء على قضية أوكرانيا حية سياسيا وإعلاميا خاصة في أمريكا وأوروبا، ويدعم ذلك أن فترة انتخابات التجديد النصفي للكونجرس قبل أسابيع شهدت تضاؤلا في الاهتمام بالقضية على الساحة الأمريكية بحكم الاهتمام الأمريكي بالقضايا الداخلية في فترات الانتخابات. يضاف إلى ذلك أن زيلينسكي يريد مزيدا من المساعدات من أوروبا ومن شأن المساعدات الأمريكية المتجددة أن تساعد ولو نسبيا في ذلك. وبالطبع يتطلب ذلك اتخاذ موقف أكثر تشددا من جانبه خاصة فيما يتصل برفض التفاوض مع بوتين واشتراط انسحاب القوات الروسية من بلاده رغم أنه يدرك تماما أن هذا لن يحدث بالكيفية ولا إلى المدى الذي يريده. أما زيارته لبولندا في طريق عودته فإنها تتصل بالتنسيق حول استقبال صواريخ باتريوت التي وعده بها بايدن ونقلها إلى أوكرانيا وتدريب الأوكرانيين على تشغيلها وهو ما سيستغرق بالضرورة وقتا وتنسيقا كبيرين، سياسيا وعسكريا ولوجستيا أيضا.

ثانيا: بالنسبة للولايات المتحدة فإن الرئيس بايدن يتجه نحو التصعيد في أوكرانيا من خلال استمرار وزيادة المساعدات العسكرية، ويؤكد ذلك قراره إمداد أوكرانيا بصواريخ باتريوت بعد إمدادها بصواريخ هيمارس من قبل. خاصة وأن ذلك حدث بعد أن حرصت واشنطن على تحذير أوكرانيا علنا من استخدام أسلحة أمريكية في ضرب أراض روسية، وذلك عندما استهدفت كييف مواقع روسية قريبة من الحدود الأوكرانية قبل أسابيع، كما أنها – واشنطن – أكدت لموسكو في الوقت ذاته أنها لا تحرض أوكرانيا ولا تشجعها على استهداف أراضي روسيا وأن إمداداتها من الأسلحة تستهدف دعم قدرات أوكرانيا للدفاع عن نفسها فقط. جدير بالذكر أن موسكو حذرت بوضوح من مخاطر إمداد كييف بصواريخ باتريوت، وحاول بوتين ومسؤولون روس التقليل من أهميتها بشكل واضح ولكن الأمر لا يمكن النظر إليه على أنه تطور محدود أو غير مؤثر نظرا لما تتصف به صواريخ باتريوت من خصائص وقدرات عسكرية متطورة. من جانب آخر فإنه إذا كانت عملية نقل صواريخ باتريوت إلى أوكرانيا والتدريب عليها والقدرة على استخدامها قد تستغرق ستة أشهر على الأقل، فإن ذلك يعني أن الحرب لن تنتهي على الأرجح قبل عدة أشهر، برغم ما أبداه بايدن من إمكانية اللقاء مع بوتين إذا كان " جادا وواضحا " وذلك في محاولة لوقف الحرب بعد "التنسيق مع زيلينسكي". جدير بالذكر أن موقف بايدن خلال لقائه مع الرئيس الأوكراني قد تراجع نقطة فيما يتصل بمستقبل أوكرانيا حيث أشار إلى أنه يؤيد التوصل إلى " سلام عادل " في أوكرانيا، وهو تصريح يفتح المجال أمام جدل حول المقصود بذلك وما هو ممكن وغير ممكن، خاصة وأن بايدن كان قد أيد مقترحات زيلينسكي للسلام والتي يتمسك فيها بجلاء روسيا عن كل أراضي أوكرانيا بحدود 2014 بما يعني عودة شبه جزيرة القرم إليها، وهو ما ترفضه موسكو بشكل تام. وبينما أشارت بعض المصادر إلى أن زيلينسكي لم يوضح لبايدن الخيارات التي يفكر فيها رغم محاولة بايدن استيضاحها منه فإن مما له دلالة أن صحيفة واشنطن بوست تحدثت قبل أيام نقلا عن مصادر في البيت الأبيض عن ظهور " اختلاف في الأهداف بين بايدن وزيلينسكي خلال الزيارة ". وإذا كان بايدن استهدف من الزيارة دعم رئاسته وصورته التي تضررت بشكل أو بآخر، إلا أن الزيارة تصب قدرا من الزيت على نار الحرب وتزيد الخلافات مع موسكو خاصة إذا سارت في "مشروع تصنيف روسيا دولة معتدية " الذي تجري مناقشته في الكونجرس لممارسة مزيد من الضغوط عليها.

ثالثا: بالنسبة للرئيس الروسي فإن وتيرة حديثه عن السلاح النووي واستكمال الاستعدادات الروسية بهدف الردع والتصدي لأي مساس بأراضي وسيادة روسيا قد زادت وتيرتها وتكررت بشكل ملحوظ في الأسابيع الأخيرة وهو ليس مصادفة أبدا، كما أنه وافق على زيادة عدد القوات الروسية لتصل إلى 1.3مليون جندي، وأمر بدعم وتطوير الصناعات العسكرية الروسية والعناية بالتدريب، وذلك خلال اجتماعه مع القيادات العسكرية الروسية قبل أيام. ومع أن تلك التطورات على الجانبين تدفع نحو التصعيد خلال الفترة القادمة إلا أن إرهاصات الإعداد لإمكانية التفاوض بين روسيا وأوكرانيا بدأت في الظهور وقد تتطور إذا تم توافق روسي أوكراني على ما يمكن قبوله أو التفاوض بشأنه من جانب بوتين وزيلينسكي مع الاستعداد لصيغة تحفظ ماء الوجه لكلا الجانبين. على أية حال فقد دفعت أوكرانيا ثمنا فادحا للعب بين موسكو وواشنطن ويشاركها في دفع الثمن عشرات الدول والشعوب ولم تسلم منه روسيا وأوروبا وأمريكا كذلك.