الكيمياء في خدمة التواصل
لطالما حاول المهتمون تسليط الضوء على ممارسات التواصل وتعددها وتطورها عبر الزمن بل وحتى تصنيف مستويات ومدى تأثيرها على الجمهور عموما وعلى الفرد بشكل خاص. وفي سبيل ذلك تأسست نظريات عديدة من أجل إيجاد وتبسيط الفهم الموحد لممارسات التواصل بما يسهم في تعزيز ترسيخ تلك الممارسات بشكل علمي ومهني. إن مما تطرقت له بعض تلك النظريات مستويات التأثير الناتج عن ممارسات التواصل نموذج آيدا AIDA الذي يغطي مراحل التأثر لدى الجمهور المستهدف من الوعي إلى الاهتمام مرورا بالرغبة وانتهاء باتخاذ الفعل. ولكن كيف يعمل ذلك التسلسل فعليا، مع الأخذ بالاعتبار مدى تعقيد الجسم البشري خصوصا الأجزاء المتعلقة بالمراحل الأربع المذكورة وأبرزها الدماغ؟ ولربما يمكن تبرير محاولة الفهم هذه ضمن توجه الاستفادة من العلوم الأخرى في خدمة التواصل والإعلام وإسقاط نظرياتها ومبادئها عليه من أجل ضمان فاعلية ممارساته وتعزيز موضعه كعلم بين مختلف العلوم الأخرى.
إن التطرق لكيفية عمل الدماغ البشري تتطلب وجود أساس من المعرفة حول كيفية نشأته عبر العصور؛ إلا أن ذلك قد يكون له مساحته النقاشية الخاصة في غير هذا السياق نظرا لجدلية أبعاد النظريات المرتبطة بذلك في الأساس. ولذا فإن من الأجدى في هذا المقام الاكتفاء بالتطرق إلى الدماغ البشري بصورته الحالية، أو ما يعرفه البعض حسب نظريات التطور وأنواع الإنسان بدماغ الإنسان العاقل Homo Sapien. يتألف الدماغ البشري من أجزاء مختلفة كل له دوره الحيوي ضمن الدماغ كمركز متكامل للتحكم بجسم الإنسان. وتشكل كل تلك الأجزاء مجتمعة ما لا يزيد عن 2 بالمائة من كتلة جسم الإنسان، لكنها في المقابل تستهلك ما يصل إلى 20 بالمائة من الطاقة التي يحتاجها الجسم - أي خمس تلك الطاقة - نظرا للوظائف الهامة التي يؤديها مركز التحكم في جسم الإنسان. وباختلاف مهام كل جزء من مكونات الدماغ، يتمكن الدماغ من تلقي الإشارات التي تبعثها مختلف أجزاء الجسم عبر الجهاز العصبي المرتبط أساسا بالدماغ بما في ذلك ما تستقبله الحواس الخمس من عناصر تترجمها إلى إشارات عصبية تنتقل إلى الدماغ من أجل معالجتها مركزيا وإصدار الأوامر لمختلف أجزاء الجسم بالاستجابة حسب برمجة الدماغ.
ويستخدم الدماغ في إرساله لتلك الأوامر النواقل العصبية Neurotransmitters التي تلعب دور الوسيط بين الخلايا العصبية من جهة، وبينها وبين أجزاء الجسم الأخرى. وتتخذ تلك النواقل العصبية صيغة كيميائية تفرزها أطراف الخلية العصبية لتنتقل إلى الخلية الأخرى، وتتنوع التأثيرات الناتجة عن تلك النواقل باختلاف أنواعها أصلا، حيث يتولى الدوبامين على سبيل المثال مهمة التحكم الحركي والشعور بالتحفيز والإنجاز، بينما يكون دور السيروتونين مهام النوم والذاكرة والمزاج وشهية الأكل، فيما يتولى الأدرينالين مسؤولية ردود الفعل تجاه المواقف الحرجة أو ما يسمى «الهروب أو المواجهة Fight of Flight» وهو ما ينتج عنه تسارع ضربات القلب وتدفق الدم وسرعة التنفس وارتفاع معدلات السكر في الدم وزيادة القوة والأداء الجسدي.
إن استقبال الدماغ البشري للمحتوى الإعلامي الذي يتعرض إليه بشكل خاص عبر حواس السمع والبصر - وحتى اللمس بالنسبة للأشخاص ذوي الإعاقة البصرية مع استخدام لغة برايل - ينتج عنه معالجة واستجابة الدماغ عبر الأوامر التي يوجهها إلى الأجزاء المعنية في الجسم ولو حتى على هيئة عواطف يشعر بها الجسم بشكل عام، حيث - وعلى سبيل المثال - يتولى الفص الجبهي Frontal Cortex بالتعاون مع منطقة الطلل Precuneus واللوزة الدماغية Amygdala توليد الشعور بالفرح في عمل تشاركي بين الوعي ومركز الشعور في الدماغ. ويندرج الأمر بعمل أجزاء مختلفة من الدماغ في توليد المشاعر الأخرى مثل الخوف والحزن والامتعاض والغضب والمفاجأة وغيرها.
إن دور الدماغ البشري في التواصل لا ينحصر فقط في معالجة وترجمة المدخلات الواردة إليه وتحويلها إلى أفعال أو مشاعر، بل يتحكم الدماغ أيضا بمستوى «الانتباه Attention» الذي يوليه الشخص للمحتوى الإعلامي الذي يتعرض إليه. وقد بدأ الاهتمام بهذا الدور الذي يتولاه الدماغ منذ نهايات القرن التاسع عشر على يد عالم النفس الأمريكي ويليام جيمس الذي يعد الأب الروحي لعلم النفس الأمريكي، حيث قاده اهتمامه بذلك إلى إيجاد تعريف للانتباه يتلخص في أن الدماغ يختار إيجاد مساحة داخله لتلقي معلومات حسية معينة على حساب معلومات أخرى موجودة في ذات المحيط سعيا لتحسين سلوكنا عبر فهم واستيعاب تلك المعلومات. وتبين بعض خلاصات نتائج الأبحاث في هذا المجال أن الدماغ البشري عموما يعطي الانتباه بشكل أساسي فقط تجاه الأشياء الحسنة والسيئة، دون الحاجة إلى إيجاد محفزات للانتباه، حيث ينتبه الدماغ تلقائيا - حسب تلك الدراسات - إلى الابتسامة التي تعلو وجه شخص يتحدث إلينا - وهو شيء حسن - كما ينتبه أيضا بشكل تلقائي إلى وجود أفعى سامة في نطاق النظر.
وفي سياق الحديث عن علاقة التواصل بكيمياء الدماغ، فإنه لا بد من التطرق إلى آلية الدماغ في تلقي ومعالجة مختلف أنواع المحتوى الإعلامي، حيث يقوم الدماغ البشري أثناء القراءة بتصور المعاني المقروءة على هيئة صور أو مشاهد، وذلك نتيجة لكون المناطق المعنية بالقراءة والصور ضمن الدماغ مشتركة أصلا. كما أن من المثير للاهتمام معرفة أن الدماغ البشري يستطيع معالجة مقاطع الفيديو بشكل أسرع بستين ألف مرة من قدرته على معالجة النصوص المقروءة. وقد تقودنا هذه الحقيقة إلى إيجاد تفسير للتحول الملحوظ للجمهور من الإقبال على قراءة النصوص إلى التهافت على استهلاك محتوى الفيديو، والذي قد لا يكون بالضرورة مأخذا على الجمهور، بل ربما يكون التطور التقني الذي سهل صنع ونشر وتداول واستقبال محتوى الفيديو هو ما قاد إلى إقبال الجمهور على محتوى يسهل على أدمغتهم استقباله ومعالجته. أما ما يتعلق بتأثير وسائل التواصل على تنشيط النواقل العصبية، فإن أبرز ما توصلت إليه الأبحاث الارتباط الوثيق بين الإدمان على استخدام تلك الوسائل وتنشيط الناقل العصبي الدوبامين بشكل مؤقت، حيث أن سلوك الجمهور عبر تلك الوسائل مرتبط بتوليد الشعور بالإنجاز والقبول - بسبب وجود المتابعين والتعليقات والإعجابات - التي تشعر المستخدم ولو مؤقتا بنشوة الدوبامين التي سرعان ما تنطفئ ليبدأ الدماغ بشكل لاشعوري بالبحث عن المزيد من مسببات إفراز الدوبامين من متابعين جدد وتعليقات وإعجابات تؤدي إلى دخول الشخص في دوامة لا تنتهي من استخدام تلك الوسائل.
