القيمة المضافة.. في بعدها الاجتماعي

09 مايو 2021
09 مايو 2021

يستوقفني في أحيان كثيرة حالة الهياج التي تصاحب الجماهير في مناسبات الاحتياجات والمظاهرات، وأرى فيها احتمال ما لا يحتمل، لأن النتائج الكارثية التي تخلفها ليست يسيرة، وكل من يتعرض لشيء من ذلك من أفراد ومؤسسات؛ ليس له ذنب، سوى أنه صادف وجوده في زحمة الركب، هذه الممارسة المشوهة لحقيقة المجتمعات، مقارنة مع مكتسب الوعي بالمسؤولية الاجتماعية، وترسيخ مفهوم الملكية العامة، ولكن الشيء المطمئن أن مثل هذه الممارسات لا تحدث كثيرا، فحالاتها نادرة، وما بين توقفها وحدوثها ثمة مسافة زمنية لها الفضل في إنجاز الكثير من استحقاقات الوطن، وهو إنجاز مقدر؛ يمثل قيمة مضافة، يحسب لأبناء المجتمع في بعدهم الاجتماعي على وجه الخصوص، وهذا أمر في غاية الأهمية.

يظل البعد الاجتماعي هو البعد الأكثر الذي يدور الحديث حوله، لأنه مرتبط بالأصل، وهو الإنسان، فالإنسان هو أصل هذه الحياة في حركتها الديناميكية، بخلاف أي كائن حي آخر، وتأتي بقية الكائنات لتشكل مع هذا الإنسان صورة الحياة في مناخاتها المختلفة، نعم؛ قد تختلف الأدوار، والممارسات بين هذه الكائنات كلها؛ بما فيها الإنسان؛ ولكنها في النهاية ترسم الصورة العامة للحياة، مع الاعتراف بأن كل هذه الكائنات التي تتقاسم مع الإنسان مجالات البقاء والحركة هي لم يخلقها الله- عز وجل- عبثا، حيث تؤدي أدوارا متباينة، في مساحات العطاء المتاحة أمامها (إن في ذلك لذكرى لمن كان له قلب أو ألقى السمع وهو شهيد)- الآية (37) من سورة ق.

يأتي المسار الطبيعي لأي مكون اجتماعي بدءا من تأسيس الدولة، بكامل حمولتها التاريخية، والحضارية، والإنسانية، ومن ثم يأتي الفرد الفاعل في سياق تطور الدولة عبر مجتمع كبير وواسع ومتنوع، يبدأ من القرية؛ حيث المنشأ أو الأصل؛ ومن ثم يتضخم وصولا إلى الحواضر والمدن الكبيرة؛ المعقدة بتركيباتها السكانية، وبنظام سلوك قاطنيها، وفي مجموع الطرفين: القرية والمدينة المشكلتين لكفتي الميزان المجتمعي، تظهر اشتغالات أفراد المجتمع عبر منظومات متعددة تبدأ من مساهمة العامل البسيط في حاضنته الصغيرة، وتنتهي في الحاضنة الكبرى الممثلة في الحكومة بمؤسساتها وهياكلها المختلفة؛ والتي تضم عددا غير قليل من أبناء المجتمع، وفي كل محطات الـ «ترانزيت» هذه؛ إن يصح الوصف، يكون هناك عائد لبناء المجتمع الكبير، هذا العائد هو ما يمكن أن يطلق عليه القيمة المضافة للبعد الاجتماعي، لأن هذه البعد لا يظهر هكذا عبر تآلفه المكون من أفراد المجتمع الممثلين بشخوصهم الفردية، وإنما عبر ممارسات ميكانيكية متنوعة، ومعقدة إلى حد بعيد، وفي خضم هذه الممارسات كلها للفرد تتقارب النتائج، وتتعاظم، ويمكننا ملاحظة هذه الصورة في نصاعتها الكاملة في الدول ذات الاستقرار السياسي، عنها في الدول ذات التململ السياسي، ففي الأولى يتضخم عائد القيمة المضافة في مجالات الحياة المختلفة، وتصبح الدولة قوية وماكنة، ولها قول الفصل في كثير من مشاريع الحياة على المستوى الدولي، وينظر إليها بشيء من التقدير والإكبار، بخلاف الدول ذات التململ السياسي التي غالبا ما تمشي على عكاز، خائرة القوى؛ ضعيفة؛ لا تشكل فيها مساهمة القوى البشرية ذات التأثير الواضح الملموس.

هناك الكثير ممن يتحدث عن البنى الأساسية، ودور المواطن في المحافظة عليها، وفي تعزيز بنيتها الفنية، وهو المفهوم الذي يذهب إلى ترسيخ المسؤولية الاجتماعية، فالمسؤولية الاجتماعية التي يكثر حولها التنظير هي في حد ذاتها تحقق أحد الشروط المهمة لتحقيق القيمة المضافة لمساهمة أبناء المجتمع، ولكن هذه القيمة لها شروطها المهمة؛ سواء من حيث التأسيس «النشأة» أو من حيث استقرار المجتمع «المرهون باستقرار الدولة» أو من حيث اطمئنان الفرد على حريته في تملكه، وفي عائده، وفي نشاطه الاجتماعي السوي، ومن حيث صيانة حقوقه، ومعرفته الكاملة لواجباته، ومن حيث تحديد مسارات حياته اليومية من البداية إلى النهاية، آمنا من أنه لن تعترض طريقه مثالب غير واضحة، تقحمه في مسؤوليات لم تخطر على باله حيث «تعتيم الرؤية» فهو إن ذهب لتقديم طلب خدمة ما، فإنه يعرف أنه يبدأ من النقطة «أ» إلى النقطة «ب» دون أن يكلفه ذلك جهدا، أو زمنا مستقطعا من نشاطه الخاص، ودون أن يكلفه سيلان ماء وجهه أمام فلان من الناس، فهو خارج عن دائرة الذل أو الاستهجان فـ (1+1 = 2) وفقط، وبالتالي متى تحققت هذه المساحة الآمنة، عد ذلك مسارا واضحا للعطاء، ونظر إلى ذلك بعين التفاؤل إلى تعاظم القيمة المضافة، لأن حالة الفرد ستكون كما هي حالة المجتمع مسارا متسقا من العمل، والعطاء، والوفاء، والتضحية والفداء، ومن هنا ينظر إلى الشراكة المجتمعية بعين الاهتمام في مساهمتها في تعزيز البنى الأساسية، حيث تتحر الصورة من فرد مستهلك لهذه البنى، إلى فرد محافظ عليها، إلى تعزيز إنتاجها، وهذا ما نقرأه بين فترة وأخرى عن هؤلاء الأفراد الصالحين الذين يضيفون لبنات في هذه الاتجاه، مضاعفين بذلك من القيمة المضافة في مشروع الوطن الكبير، منطلقين بذلك من حسهم الوطني، المنسل من حقيقتهم الاجتماعية المؤرخة للحظة النشأة الأولى، وهذه الصورة هي التي يذهب إلى توضيحها الكاتب؛ فرنسيس فوكوياما،عالم الاجتماع، ومؤلف كتاب الثقة في قوله: «إن اليابان وألمانيا والولايات المتحدة لم تصبح من أكبر القوى الصناعية في العالم عموما إلا بسبب وجود ذخيرة ضخمة سليمة من رأس المال الاجتماعي والميول العفوية للتواصل الاجتماعي وليس العكس» – انتهى النص - فرأس المال الاجتماعي؛ وفق هذه الرؤية هو تلك القيم المشتركة بين حاضنة المجتمع الكبرى؛ المتضخمة من العادات والتقاليد المشكلة للذخيرة أو الحمولة من الممارسات والسلوكيات، والقناعات، وبين مجموع التحولات اللاحقة التي تشكلها الصورة الحداثية للدولة بكل متطلباتها، وبالتالي فأية دولة لن تستطيع أن تنجز مشروعها التنموي دون أن يمر عبر المشروع الاجتماعي «الأصل» وإلا أصبح هذا المشروع التنموي أو ذاك مشروعا مبتورا مشوها، كما هو الحاصل في عدد من التجارب الدولية الحديثة، فالحداثة على أهميتها تحتاج إلى تأصيل من قيم المجتمع.

تُصب سهام النقد على الرأسمالية الحديثة اليوم أكثر من أي وقت مضى، وذلك في مشروعها التغريبي المطلق، وهو المشروع الذي «ينفض» الأوطان من استحقاقاتها الاجتماعية المهمة، سواء في تصدير القيم الحديثة للأسرة، أو للانتصار إلى النزعة الفردية، أو عبر مشروعها الكبير والمتمثل في شركات تعدد الجنسيات، والتي بدورها؛ اكتسحت الأخضر واليابس، في البلدان التي حلت بها ضيفا ثقيلا، حيث قلبت موازين استحكامات المجتمعات رأسا على عقب، فغدت صورة المجتمعات مشوهة، وبدلا من أن يكون المجتمع متوحدا مع ذاته، منتصرا بقيمه، أصبح «مدنا وقبائل» كما يقال، وفي هذا تشتيتا لأي قيمة، يمكن أن تكون مضافة ولو في مشروع المجتمع لوحده كمجتمع، قبل أن يصل إلى المساهمة في المشروع الكبير للوطن، قد يقول قائل: إن نسق العصر يتطلب أفكارا حديثة تتناسب وتطلعات أبنائه الذين يعيشون نسقا مختلفا في حيواتهم عن ما هو معتاد ومألوف، حتى لا تكون هناك- في المقابل- صور مكررة، ومملة، تضعف من إرادة الأفراد وطموحاتهم، ولا تقدم خيارا للتفاضل، وأنا أتفق تماما مع هذا التقييم، ولا أرى في المقابل أن الرأسمالية الحديثة نقمة على المجتمعات بصورة مطلقة، وحالتها اليوم تأتي تدرجا طبيعيا، فقد نشأت الرأسمالية مع نشأة الإنسان المحب للطموح، والاستقلال، والحرية، وأتفق تماما أن خط سير المجتمعات لا يمكن أن يبقى أو أن يسير على وتيرته الأفقية فقط، وإلإ ما استفاد الإنسان من مسيرته الحضارية شيئا يستحق الذكر، ولكن؛ وفي هذه المناقشة؛ يُنظَر إلى الرأسمالية الحديثة على أنها أحد العوامل المؤثرة في المشروع الاجتماعي، وأحد الأسباب في توجيه البوصلة نحو خيارات أخرى غير مألوفة، وفي كل ذلك هو الخوف أن تتضاءل مساهمة المجتمع وتتراجع عن تعظيم القيمة المضافة في مشروع الوطن الكبير، لأن الانتصار للفردية؛ على وجه الخصوص؛ فيه خطورة كبيرة على الصورة العامة للمجتمع، وذلك لسبب بسيط، وهو المساهمة في التفاوت الطبقي في المجتمع، وبالتالي ظهور فئات ستنظر إلى نفسها بصورة دائمة على أنها فئات مقهورة، وملاحقة، ومنبوذة، وكأنها ليست من حاضنة المجتمع الكبير، فالأوطان تحتاج إلى جهد كل أبنائها، وهو الخيار الوحيد الذي لا يقبل التجزئة.