القدس الشرقية.. وثمن الحفاظ على الخيط الأخير معها !!

03 مايو 2021
03 مايو 2021

د. عبدالحميد الموافي

في الوقت الذي تزداد فيه أهمية عمليات الانتخابات بمستوياتها المختلفة، باعتبارها وسيلة أساسية لتجديد القيادات وضخ دماء جديدة في شرايين مؤسسات المجتمع ذات الطبيعة التمثيلية من ناحية، وتمكين المواطنين من التعبير عن أنفسهم وخياراتهم عبر اختيار ممثليهم في تلك المؤسسات التي تعبر عنهم في إطار عملية صنع القرار من ناحية ثانية، وفق مهام وسلطات واختصاصات مؤسسات الدولة المختلفة، حسبما ينظمه القانون، فإن وقوع الوطن أو بعض أراضيه تحت الاحتلال، يثير في العادة الكثير من المشكلات، اللوجستية والتنظيمية والقانونية والسياسية، حسب سلطة الاحتلال المسيطرة على الأرض، وحسب نظرتها وأطماعها واستعدادها لاستمرار سيطرتها على الأرض، أو للسماح بإمكانية إعادتها إلى أهلها والجلاء عنها في إطار ترتيب ما محتمل.

ومن هذه الزاوية، وفي ضوء ما هو معروف ومعلن أيضا من أطماع إسرائيل في الأراضي التي لا تزال تحتلها منذ حرب عام 1967، وفي مقدمتها الأراضي الفلسطينية المحتلة في الضفة الغربية والقدس الشرقية كجزء منها، فإن الاحتلال الإسرائيلي يشكل عقبة أساسية ومشكلة إدارية وتنظيمية بالنسبة لأية انتخابات في الضفة الغربية وقطاع غزة، بحكم سيطرة القوات الإسرائيلية، وبحكم تحكم إسرائيل في عمليات الانتقال والاتصالات وبالطبع التجمعات وإدارة أية انتخابات في الأراضي الفلسطينية، حتى ولو كانت انتخابات محلية أو طلابية أو نقابية، وذلك لقدرتها وسعيها إلى التدخل فيها بأشكال مختلفة، لخدمة مصالحها، وإبعاد بعض العناصر أو الكوادر وحرمانها من المشاركة في الانتخابات بسبب مواقفها السياسية ومناهضتها للاحتلال الإسرائيلي.

وعلى الصعيد القانوني فإن إجراء الانتخابات العامة في الإقليم الخاضع للاحتلال يظل ذا أهمية كبيرة في القدرة على فرز قيادات وطنية منتخبة قادرة على التعبير عن مصالح المواطنين من ناحية، ورفض سلطة الاحتلال، وتأكيد تماسك أراضي الإقليم الواقع تحت الاحتلال من ناحية ثانية. ومن هنا تحديدا تنبع خطورة منع سلطات الاحتلال إجراء الانتخابات في مدينة، أو في جزء من الأراضي المحتلة، لأن ذلك يمهد عادة إلى فصل هذا الجزء وعزله والسيطرة عليه، واستغلال عدم إجراء الانتخابات فيه، وتقديمها بعد ذلك كدليل على أن هذا الجزء أو تلك المدينة ليست ضمن الأراضي الواقعة تحت الاحتلال. وهذا هو جوهر موقف القيادة الفلسطينية التي يمثلها الرئيس الفلسطيني محمود عباس، وتمسكه الشديد بضرورة إجراء الانتخابات الفلسطينية في القدس الشرقية المحتلة، أسوة بكل أجزاء الضفة الغربية وقطاع غزة، وذلك كتأكيد قانوني وسياسي على أن القدس الشرقية المحتلة هي أرض فلسطينية محتلة، بكل ما يعنيه ذلك من معان ويترتب عليه من نتائج أيضا. ومن المعروف أن الانتخابات الفلسطينية التي أجريت عامي 1996 و2006 قد جرت في القدس الشرقية، بعد مماطلة ومحاولات تعويق إسرائيلية، ولكنها في النهاية تمت، وهو ما يتمسك به الرئيس عباس بالنسبة للانتخابات التي كانت مقررة في 22 مايو الجاري لانتخابات المجلس التشريعي الفلسطيني وفي 31 يوليو القادم لانتخابات الرئاسة وفي 31 أغسطس القادم لاستكمال انتخابات المجلس الوطني الفلسطيني.

وفي ظل قرار الرئيس الفلسطيني فجر الجمعة الماضية تأجيل الانتخابات الفلسطينية، وما تبعه من إعلان لجنة الانتخابات المركزية الفلسطينية إيقاف العملية الانتخابية والإجراءات التحضيرية لها اعتبارا من صباح الجمعة الماضية، فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: أولا: إنه بالرغم من أن إسرائيل مسؤولة كقوة احتلال، بموجب اتفاقيات جنيف لعام 1949 وبموجب اتفاقية أوسلو 1993، عن تأمين وتيسير إجراء الانتخابات في الأراضي الفلسطينية المحتلة عام 1967، بما فيها القدس الشرقية كجزء من الضفة الغربية المحتلة، إلا أن إسرائيل تبذل كل ما تستطيع من جهد لتهويد القدس الشرقية ولعزلها بسلسلة مستوطنات عن محيطها ولإعادة تخطيطها بما يخدم أهداف إسرائيل في دمجها ضمن القدس الموحدة، وفي الوقت نفسه الاستمرار في التخلص من أكبر عدد ممكن من المقدسيين بوسائل مختلفة، والمؤكد أنها لا تريد إجراء الانتخابات الفلسطينية في القدس الشرقية، وأنها تماطل في إعطاء موافقتها على إجراء الانتخابات، وذلك بمبرر أنه لا توجد حكومة في إسرائيل يمكنها اتخاذ قرار، باعتبار أن حكومة نتانياهو القائمة هي حكومة تصريف أعمال ولم يتم تشكيل الحكومة الجديدة بعد الانتخابات الأخيرة. وقد أشارت الرسالة الإسرائيلية التي تلقاها وأعلنها الرئيس الفلسطيني بهذا الخصوص إلى «نأسف يا جيراننا الأعزاء أننا لا نستطيع أن نعطيكم جوابا بشأن القدس السبب ليس لدينا حكومة لتقرر.» ويعني ذلك ببساطة إنه لن يكون هناك قرار إسرائيلي بالموافقة على إجراء الانتخابات في القدس الشرقية حتى تشكيل الحكومة الإسرائيلية الجديدة ونيلها ثقة الكنيست وممارستها لمهامها، وهذه مدة قد تطول، سواء في ظل تعثر نتانياهو وعدم قدرته على تشكيل الحكومة، واحتمال تعثر المعارضة الإسرائيلية في حال تكليفها، وعدم استبعاد الذهاب إلى جولة خامسة من الانتخابات العامة في إسرائيل. وفي ضوء ذلك فإن إجراء الانتخابات الفلسطينية أصبحت معلقة على انتهاء الأزمة السياسية الداخلية في إسرائيل، خاصة أن الرئيس عباس أعلن في ختام اجتماعات الفصائل الفلسطينية يوم الخميس الماضي أنه «قررنا تأجيل موعد إجراء الانتخابات التشريعية إلى حين ضمان مشاركة القدس وأهلها في هذه الانتخابات، فلا تنازل عن القدس ولا تنازل عن حق شعبنا في القدس في ممارسة حقه الديمقراطي.» وقد أكد في الوقت ذاته أنه إذا وافقت إسرائيل «بعد أسبوع» أو من «الغد» فسنجري الانتخابات، وأن قرار التأجيل ليس تلكؤا، وأن الانتخابات بالنسبة لنا «ليست تكتيكا بل هي تثبيت للديمقراطية وحقنا في فلسطين.» في ظل هذا الموقف الواضح والمحدد من جانب الرئيس الفلسطيني فان تأجيل الانتخابات والتمسك بإجرائها في القدس الشرقية هو في الحقيقة محافظة على الخيط الأخير الذي يربط القدس الشرقية بمحيطها الأرضي في الضفة الغربية، وهو أيضا تأكيد على فلسطينية القدس الشرقية والتعامل معها كجزء من الأراضي التي احتلتها إسرائيل عام 1967، والاستمرار في هذا الموقف والإصرار عليه له أهميته القانونية والسياسية بالنسبة لمستقبل القدس الشرقية في أية تسوية قادمة. يضاف إلى ذلك أن الرئيس عباس لا يريد أن يرسي سابقة يشتم منها إمكانية التفريط أو التساهل بالنسبة للقدس الشرقية، ولذا فإنه رفض اقتراحا من الاتحاد الأوروبي بأن تتم عملية التصويت في الانتخابات في القدس الشرقية في قنصليات الاتحاد الأوروبي في القدس الشرقية، وتمسك بضرورة إجراء الانتخابات ترشيحا وانتخابا ودعاية بموافقة إسرائيل وان تتم عمليات التصويت في مقار مكاتب البريد في القدس الشرقية كما جرت عام 2006. والمسألة هنا قانونية وسياسية ذات أهمية ودلالة.

ثانيا: انه مع إدراك أن إسرائيل لا ترحب بانتخابات فلسطينية، يمكن أن تكون مدخلا أو سبيلا لاستعادة الوحدة والمصالحة الفلسطينية، أو تقوية الموقف الفلسطيني بشكل أو بآخر، ولذا فإنها – أي إسرائيل – تريد تعويق هذه الانتخابات، خاصة مع ظهور تقديرات ترجح كفة حركة حماس في الانتخابات في مواجهة حركة فتح التي تشهد انقساما داخليا قد يؤثر على أدائها في الانتخابات، فان قرار تأجيل الانتخابات التشريعية الفلسطينية، انتظارا لموافقة إسرائيل على إجرائها في القدس الشرقية لا يمكن ربطه بمثل تلك التقديرات السابق الإشارة إليها، وهو ما أوضحه الرئيس عباس من أن الانتخابات «ليست تكتيكا» وأنها ستتم فور الموافقة الإسرائيلية وأن السلطة الوطنية الفلسطينية سعت ولا تزال تسعى مع الاتحاد الأوروبي والعديد من القوى والأطراف الدولية لممارسة ضغوط على إسرائيل للموافقة على إجراء الانتخابات في القدس الشرقية. وأمام هذا الموقف المتمسك بالقدس الشرقية فإن الدعوة لإجراء الانتخابات في موعدها وبدون القدس الشرقية هو موقف خطير في الواقع لأنه يرسي سابقة التنازل الفلسطيني فيها. ومن المؤسف أن هناك من الفصائل الفلسطينية التي انجرفت إلى انتقاد موقف الرئيس عباس، بل ووصفته « بالانقلاب على الانتخابات «، أو كأن الرئيس الفلسطيني يناور ولا يريد إجراء الانتخابات، بالرغم من انه اعلن انه مستعد للإقرار بنتائج الانتخابات كسبيل لاستعادة الوحدة والمصالحة الفلسطينية وبدء مرحلة جديدة من العمل لاستعادة الحقوق الفلسطينية وإقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس الشرقية.

ثالثا: إنه إذا كان من المعروف أن الانتخابات الفلسطينية، والإعداد والتحضير لها والاتفاق على توقيتاتها، وبناء توافق فلسطيني متماسك نسبيا حولها، قد مر بمخاض صعب، بذلت فيه القاهرة الكثير من الجهود المخلصة لبناء موقف فلسطيني واسع ومتماسك بقدر الإمكان ويخدم المصالح الفلسطينية ويكون مدخلا لاستعادة المصالحة الفلسطينية وإنهاء الانقسام وضخ دماء جديدة في شرايين المؤسسات الفلسطينية، فإنه من المعروف أيضا إن هناك محاولات تدخل من جانب أطراف مختلفة، عربية وإقليمية للتأثير في الانتخابات الفلسطينية ولدفع وجوه، وتزكية عناصر أو قيادات محددة، وليس مصادفة أن تكون هناك ثلاث قوائم انتخابية داخل حركة فتح هي قائمة «المستقبل» للقيادي السابق في حركة فتح محمد دحلان، ويؤيدها الأسير الفلسطيني مروان البرغوثي، وقائمة «الحرية» التي يتزعمها ناصر القدوة ابن شقيقة ياسر عرفات والذي فصلته حركة فتح من عضويتها لعدم التزامه بقواعدها، كما حدث لمحمد دحلان، والقائمة الثالثة هي القائمة الأساسية لحركة فتح. ومع أن هذا الانقسام قد يؤثر على الانتخابات الفلسطينية القادمة، خاصة أن حركة حماس تطرح قائمة واحدة تمثلها، إلا أن نتائج الانتخابات ستكون مرهونة باعتبارات عديدة ومؤثرات كثيرة مباشرة وغير مباشرة، ومن الصعب التيقن من نتائجها قبل إجرائها عمليا. ولذا فإن عودة الخلافات والتراشق بالاتهامات بين حركتي فتح وحماس، بعد رفض حماس لقرار تأجيل الانتخابات، يشير إلى إمكانية حدوث تداعيات سلبية إذا جرت الانتخابات خلال فترة وجيزة، ولعل ذلك يدفع القاهرة إلى المسارعة في العمل لاحتواء التداعيات المترتبة على تأجيل الانتخابات، ولعل الأطراف الأخرى العربية والإقليمية تساعد في احتواء الخلافات ولا تصب الزيت على النار لخدمة مصالحها الذاتية.

وفي النهاية فإن التعويل هو على القيادات الفلسطينية ذاتها بالدرجة الأولى، وعلى قدرتها على العمل من أجل المصالح الفلسطينية العليا وتجاوز المصالح الفصائلية الضيقة، والحفاظ على أكبر مساحة من التقارب فيما بينها، خاصة في ظل التربص الإسرائيلي والتهديد السافر من نتانياهو باللجوء إلى أساليب عسكرية للرد على إطلاق صواريخ من قطاع غزة.

وعلى أية حال فإن الأسابيع القادمة ستكون عرضة لتطورات مختلفة فلسطينيا وإسرائيليا وإقليميا خاصة بعد أن حسم الرئيس عباس موقفه في الحفاظ على الخيط الأخير لربط القدس الشرقية بأراضي الضفة الغربية المحتلة وإعلاء ذلك على إجراء انتخابات ستحسب عليه إذا قبل عدم إجرائها في القدس الشرقية، والمؤكد انه لن يقبل ذلك تحت أية ظروف، فهو يدرك أن القدس الشرقية هي جوهرة الأراضي الفلسطينية وعاصمة الدولة الفلسطينية القادمة في إطار حل الدولتين مهما حاول نتانياهو واليمين الإسرائيلي.