الفرص الفلسطينية في «الحرب الافتراضية» مع إسرائيل

12 يونيو 2021
12 يونيو 2021

د. عبدالعاطي محمد -

لقد شدت مشاهد المواجهة المسلحة أنظار العالم بحكم ما جرى فيها من قصف متبادل بين قوى الاحتلال وقوى المقاومة الفلسطينية في غزة ومحيطها وامتداد المواجهة إلى قلب إسرائيل ذاته, ومن خلاله ظهرت وسائل الدفاع الإسرائيلية عاجزة عن وقف الصواريخ الموجهة من القطاع حتى بات المشهد مرعبا عند الجانب الإسرائيلي, وبالمقابل وقع دمار هائل على الجانب الفلسطيني كانت أبشع مظاهره ضرب المدنيين ومنشآتهم واضطرار عشرات الآلاف من الفلسطينيين للعيش في أماكن الإيواء. وعليه كان من الطبيعي أن يتصدر موضوع وقف إطلاق النار الموقف وهو ما حدث بالفعل بعد 11 يوما من المواجهات المسلحة.

ولكن كانت هناك حرب من نوع آخر غطت عليها تطورات الحرب المسلحة, مع أنها لعبت دورا مهما في آخر جولات الصراع بين الجانبين, ألا وهى الحرب على شبكات التواصل الاجتماعي شارك فيها قطاع عريض من الشباب والنشطاء وقادة الرأي من الجانب الفلسطيني عملت على كشف ادعاءات السياسة الإسرائيلية والانتهاك الصارخ لأبسط حقوق الإنسان وقضيته المشروعة في استعادة الأرض المحتلة ورفض تهويد القدس والدفاع عن المسجد الأقصى والتمسك بممتلكات المقدسيين وعدم الاستسلام لمشروعات الاستيطان سواء في المدينة المقدسة أو في عموم الأراضي الفلسطينية. وعلى الجانب الآخر حشدت وعبأت إسرائيل, في تطور غير مسبوق, مختلف إمكانياتها وأنصارها في المجتمعات الغربية لتشويه الموقف الفلسطيني والترويج لما تفعله من اعتداءات على أنه دفاع من جانبها عن النفس بل وحربا من جانبها ضد الإرهاب!. وقد ضجت شبكات التواصل على مدى الأسبوعين الأولين من مايو 2021 بالعديد من الوسوم أو الهشتاجات المناهضة لبعضها البعض من الجانبين, وعبر الكم الضخم من المشاركات كانت الفكرة الرائجة من كتابات الفلسطينيين هي وصم إسرائيل بالعنصرية, بينما كانت الفكرة المضادة من الجانب الإسرائيلي هي وصم الفلسطينيين بالإرهابيين!.

وواقع الأمر أن التراشق على منصات التواصل لم يكن وليد أحداث الأقصى الأخيرة تحديدا, حيث كان قائما من قبل على مدى السنوات الثلاث الماضية مع تطور قدرات النشطاء الفلسطينيين وتقوية أواصر التعاون مع الجاليات الفلسطينية والعربية والإسلامية التي تعيش في معظم العواصم الغربية وفي المقدمة منها واشنطن. وشهدت هذه السنوات صداما مع بعض منصات التواصل عندما دشن مثلا نشطاء فلسطينيون وسم فيس بوك عنصري احتجاجا على غلق الموقع عشرات الحسابات لناشطين وصحفيين فلسطينيين وحذف منشورات تندد بجرائم الحرب الإسرائيلية. وتدخلت السلطات الإسرائيلية لدى منصات مثل فيس بوك وجوجل وتويتر لحذف محتويات تناهض إسرائيل عموما, وتم الاستجابة لطلبها. ومنذ عام 2019 هناك قواعد معمول بها في فيس بوك وانستجرام تتعلق بحذف أية مشاركات تهاجم تعبير «الصهيونية».

ولكن مع وقوع أحداث حي الشيخ جراح ورغبة المستوطنين الاستيلاء على منازل المقدسيين هناك ضمن تحركات لم تتوقف لطرد أصحاب الأرض خارج المدينة المقدسة, وما تلي ذلك من اعتداءات من جانب الشرطة الإسرائيلية على المصلين في المسجد الأقصى وهم يؤدون الصلاة في شهر رمضان, ثم توالى الهجوم على غزة, نقل المشهد رأسا على عقب, وتحولت شبكات التواصل في أيام معدودة إلى ما يشبه ساحة الحرب بين من يناصر الشعب الفلسطيني ومن يؤيد إسرائيل. وقد بدأت المواجهات في الحرب الافتراضية مع أحداث حي الشيخ جراح قبل نهاية الأسبوع الأول من مايو أي قبل الحرب على غزة, حيث انتشر سريعا وسم (أنقذوا حي الشيخ جراح) مدعوما بكثافة ليس فقط من الفلسطينيين وتحديدا من أبناء القطاع, وإنما أيضا من ملايين العرب والمسلمين في شتى بقاع العالم, خصوصا أنه وجد مشاركة من مشاهير العالم في الغرب. وتمت كتابته بالعربية والإنجليزية. ثم تلاه وسم المسجد الأقصى, إلى أن ظهر وسم غزة تحت القصف ثم غزة تنتصر. ولم يقف الجانب الإسرائيلي ساكتا, حيث انطلقت لجانه الإلكترونية تهاجم الخطاب الفلسطيني بأشكاله المختلفة التي ظهر بها على جميع المنصات الشهيرة, ولم تقف المشاركة الإسرائيلية عند الأشخاص العاديين بل امتدت لتشمل مسؤولين إسرائيليين وعلى سبيل المثال كتب نتانياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي آنذاك منشورا على حسابه في فيس بوك وصف فيه المدنيين الفلسطينيين بأنهم إرهابيون!, كما كتب أفيجاي أدرعي المتحدث باسم الجيش الإسرائيلي ما معناه أن ما يصدر من حماس وغيرها يتناقض مع ما يقولونه عن الإسلام بزعم أن المنظمات الفلسطينية تقتل الأطفال والمسنين على نقيض ما يطالب به الإسلام.

وقد كان من الممكن أن تقف المواجهة الإلكترونية هذه عند حد تبادل الوسوم المضادة من باب استخدام الإعلام الرقمي في الصراع, والذي بات أمرا معتادا في هذا الزمان في ظل سطوة وسائل التواصل بسلبياتها وإيجابياتها على تشكيل مواقف الأطراف المتصارعة. ولكن ما هو أهم من ذلك والذي كشف بوضوح عدم مصداقية القائمين على شبكات التواصل من ملاكها أو العاملين فيها, حيث الانحياز الصارخ لإسرائيل, الأمر الذي وضع هذه الشبكات في موقف لا تحسد عليه هدد ثقة المتعاملين معها ليس في المنطقة وحسب وإنما على مستوى العالم. فقد تحولت المواجهة الافتراضية من صدام مفهوم ومتوقع بين طرفين متصارعين هما الطرف الفلسطيني والطرف الإسرائيلي, إلى مواجهة بين المتعاملين الفلسطينيين والعرب والمسلمين مع هذه المنصات والأخيرة ذاتها باتهامها صراحة بأنها منحازة لإسرائيل وأن كل ما تقوله عن الحيادية ورفض الأفكار والمواقف التي تحض على العنف والكراهية لا ينطبق من جانبها على الجانب الإسرائيلي بل على الطرف الآخر. وهكذا وجدت شبكات مثل فيس بوك وانستجرام وتيك توك وتويتر وجوجل نفسها في موضع الاتهام بالانحياز لإسرائيل من خلال حجب المشاركات المؤيدة للفلسطينيين. وكان لافتا أنه مع توالي أيام القصف على غزة ووقوع عديد الضحايا المدنيين وتدمير منشآت مدنية كان من بينها برج ضم مكاتب لوسائل الإعلام العالمية والإقليمية, بدأت هذه المنصات في الحجب السريع للمشاركات المؤيدة للفلسطينيين, لأنها اكتشفت ازدياد الدعم العالمي للفلسطينيين وقضيتهم وبالمقابل خسارة إسرائيل لأحدث المواجهات الحاسمة مع المقاومة الفلسطينية. وقد رصد عديد النشطاء الفلسطينيين وأنصارهم في العواصم الغربية عديد الحالات التي قامت بها هذه المنصات لتفعيل قاعدة الحجب. وما لفت انتباه القائمين على هذه المنصات أن المتعاملين معها فلسطينيا وعربيا لجأوا إلى حيلة للتغلب على حجب محتوى مشاركاتهم عندما استخدموا كلماتهم العربية بدون تنقيط مثلا أو بترك مسافة بين حروف الكلمة الواحدة, بما يعنى أن خورازميات المنصات لن تفهم المحتوى, أي لا تميز ما إذا كان ضد قواعدها أم لا. وأضاف ذلك ثقلا إضافيا للمعركة داخل الحرب الافتراضية مما جعل المنصات في وقت لاحق تمعن في الحجب!. ومرة أخرى, خلال الحرب على غزة, يتدخل المسؤولون الإسرائيليون لحجب المشاركات المؤيدة للفلسطينيين حيث اجتمع وزير الدفاع والقائم بمهام وزير العدل مع مديرين من شركتي فيس بوك وتيك توك وحث وزير الدفاع المديرين على ضرورة اتخاذ إجراءات فورية لإزالة محتويات لمشاركات فلسطينية يراها أنها قد تحرض على العنف أو تبث معلومات مضللة.

وتحت تأثير الانتشار الذي أحدثته مشاركات التأييد للفلسطينيين, حيث تفاعل إيجابيا على سبيل المثال ما يزيد على 146 مليون شخص مع وسم غزة تنتصر, وما اتضح جليا على أرض الواقع لدى قطاع عريض من الرأي العام العالمي وتحديدا الغربي المعروف دائما بتأييده لإسرائيل, من ضعف الموقف الإسرائيلي على الصعيد الاستراتيجي هذه المرة, اضطرت شبكات التواصل إلى التراجع بحذف صفحات محتالة للجان الإلكترونية الإسرائيلية كان يتابعها الملايين دون إدراك لحقيقتها ومحتواها الاحتيالي, وكذلك العمل على مراجعة آلية المراقبة والحجب, وبررت كل ما حدث من تجاوزات صارخة بالانحياز لإسرائيل بأنه يعود لأخطاء فنية!

وبالمجمل فإن الإعلام الرقمي الفلسطيني حقق انتصارا بالنقاط على مثيله الإسرائيلي, ولكن ما يجب أخذه في الاعتبار أن دوره يظل كاشفا لا منشئا بمعنى أنه قادر فعلا على نقل الصورة الحقيقية للاحتلال والاعتداء الصارخ على حقوق الإنسان الفلسطيني وعدالة قضيته من خلال تسجيله لممارسات الاحتلال ونشر ذلك عالميا, ولكنه لا يستطيع وحده أن يغير واقع الاحتلال. ومن المفيد أن يستخدم نفس الآليات التي يستخدمها الإعلام الرقمي الإسرائيلي, ولكن دون أن يقع في مغالطات ونشر معلومات غير موثقة حتى لا يفقد ما يحققه من رصيد للثقة على صعيد الرأي العام العالمي. ومصدر الخطر أن يتأثر بالصراعات السياسية القائمة وما أكثرها في الساحة الفلسطينية. ويضاف إلى ذلك أنه ما كان له أن يحقق هذا الانتصار لولا أن المقاومة المسلحة استطاعت أن تضعف الموقف الإسرائيلي, وسائل التواصل شئنا أم أبينا تضع أوراقها مع الطرف القوي لا مع الطرف الضعيف.

لم تكن حرب غزة الأخيرة على خلفية أحداث المسجد الأقصى هي الجانب الوحيد من المشهد الجديد للصراع بين الفلسطينيين والإسرائيليين, وإنما كانت هناك أيضا حرب «افتراضية» موازية بين الجانبين على شبكات التواصل الاجتماعي تمكن فيها الفلسطينيون من إحراز نصر آخر بجانب النصر الذي أحرزته المقاومة الفلسطينية من خلال العمليات المسلحة. ومن خلال التكامل بين هذا وذاك تزايد الوزن الاستراتيجي في معادلة القوة للصالح الفلسطيني, وتراجع انحياز بعض القوى الكبرى المؤيدة لإسرائيل لأول مرة منذ المواجهة التي وقعت عام 2014.