العلم المفتوح: هل ينقذ المجتمعات؟

23 أكتوبر 2021
23 أكتوبر 2021

أحد أبرز أشكال الجدل التي فرضتها جائحة كورونا (كوفيد 19) في المجتمع العلمي هي فكرة ما يعرف بـ (العلم المفتوح Open Science) أو الوصول المفتوح للمصادر العلمية، ويقصد به إمكانية الوصول إلى الدراسات والأبحاث والمقالات البحثية دون قيود، مع تقليل الآجال الزمنية ومساحات مراجعة الأقران (النظراء العلميين) وتقليل أمد قبول هذه الأبحاث للنشر من قبل المنصات العلمية، سواء كانت هذه المنصات مواقع إلكترونية، أو مجلات نشطة في الحقل العلمي. أفرزت هذه القضية جدلا تكاد تمظهراته تتصاعد يوميًا في هيئة تقارير ومقالات ومناقشات موسعة، ذلك أن الظرف الذي فرضته الجائحة بما فيه الاعتمالات الاقتصادية والاجتماعية والسياسية المتسارعة التي خلفتها، عوضًا عن محاولات الفهم الدقيق في الجوانب الطبية وجوانب الصحة العامة المرتبطة بها، عوضًا عن الحاجة إلى تطوير أنماط حياة ناشئة جديدة للتكيف مع أوضاعها وتطوراتها، كل ذلك حتم أن يشتغل المجتمع العلمي على مدار الدقيقة عبر اختبار فرضيات ونماذج، وطرح أسئلة ومقاربات، وخلق حالة من تدفق التحليلات والمعلومات والبيانات المعرضة لخطر النقد والهدم وإعادة التفكيك والبناء يتوازى مع تطورات الجائحة.

في يناير 2020 تم التوقيع على بيان من قبل مجموعة من المؤسسات والكيانات العلمية بلغ عددها 117 منها جامعات، ومراكز بحث، ومجلات علمية عُرف باسم "بيان مشاركة بيانات البحث والنتائج ذات الصلة بتفشي فيروس كورونا الجديد (COVID-19)" تضمن في نصه أن تلتزم هذه الأطراف بـأن تكون "جميع المنشورات البحثية الخاضعة لاستعراض الأقران والمتعلقة بالجائحة متاحة مجانًا على الأقل طوال مدة تفشي المرض" وأن "يشارك الباحثون بيانات البحث المؤقتة والنهائية المتعلقة بالجائحة، بأسرع ما يمكن وعلى نطاق واسع - بما في ذلك مع مجتمعات الصحة العامة والبحث ومنظمة الصحة العالمية". ورغم أن المنصات التي خصصتها عدة مؤسسات بما فيها منظمة الصحة العالمية، وبعض الجامعات، والمراكز البحثية والعلمية المتخصصة أسهمت في فهم أكثر تنورًا لتطورات الجائحة، ونبهت إلى إيجاد تدابير استباقية في سبيل احتوائها والسيطرة على تطوراتها، كما نبهت إلى ضرورات إعادة هيكلة سلوك المجتمعات بما يضمن التكيف مع تطورات الجائحة، عوضًا عن تطوير مصفوفات من البيانات تساعد في فهم الفئات الأكثر عرضة، والمقاربات الدوائية الممكنة، والسلوكيات الحافزة للانتشار، وغيرها من أبعاد فهم الجائحة ليس فقط في حدودها الصحية والطبية، وإنما في مختلف تمظهراتها، إلا أنه ورغم ذلك فقد ظهرت عديد الدعوات بعد فترة في ضرورة التدقيق في فكرة الوصول المفتوح للعلم أثناء الجائحة.

في دراسة نشرت في (BMC Medical Research Methodology) بعنوان: "العلم المفتوح ينقذ الأرواح: دروس من وباء كوفيد 19" حللت طبيعة مجموعة من الدراسات التي نشرت على منصة (Open Science during the pandemic) محاولة استخلاص القضايا الناشئة التي قد تشكل تحديات أمام دور العلم المفتوح في إنقاذ المجتمعات، ومن ضمن عينة 29 ورقة متعلقة بالجائحة تم تحديدها تم سحب 8 أوراق قبل اعتمادها النهائي للنشر حيث عبرت هيئات النشر والتحرير عن قلق متعلق بتحليل البيانات أو تصميم الدراسة. وبحثين تم سحبهما بناءً على طلب المؤلفين، من أجل إجراء مزيد من تحليلات البيانات، و 6 أبحاث سحبت لأن المنهجية أو تحليل البيانات كان خاطئًا، كما كشفت أن بعض الأوراق تم مراجعتها من قبل النظراء العلميين في أقل من 3 أيام. وتؤكد لنا النتائج السابقة أنه مع الحاجة إلى إتاحة الوصول العلمي هناك حاجة ماسة إلى مراجعة اعتبارات الشفافية، الصرامة العلمية، الدقة، والنزاهة في بناء الدراسات وإجراء التحليلات والالتزام بضوابط النهج العلمي، ولعل ما يدعو إليه لونني بيزانسون في هذا الصدد قد يكون حلًا وسطًا حيث دعا إلى أن "تكون المراجعات مفتوحة بحيث تكون جميع المناقشات متاحة للجمهور، بحيث يمكن الوصول بوضوح إلى شكوك المراجعين حول المخطوطة جنبًا إلى جنب مع المقالة".

إن مستقبل مجتمعات العالم اليوم تحوزه في تقديري ثلاثة أبعاد رئيسية (السعي المحموم لبناء التنافسية – حدة المخاطر – الاشتباك غير المقيد) وأمام هذه الأبعاد سيصبح العلم المفتوح واقعًا وأداة تكيف مع مختلف أشكال التحولات والطوارئ التي تطرأ على حياة المجتمعات الإنسانية، ومع الأهمية التي يشكلها العلم المفتوح في إنقاذ المجتمعات، وإيجاد مقاربات علمية مواكبة ومرنة وسريعة لقضاياها ومخاطرها، إلا أنه لا يمكن أن نغفل أن الاعتبار الأساس يجب أن يكون لاعتبارات النهج والصرامة العلمية، وعليه فإن الاستفادة من فتوحات العلم المفتوح تقتضي في تقديرنا رفع الحاسية النقدية للمجتمعات، وذلك عن طريق مؤسسات ونهج التعليم في مختلف مراحله، وتعزيز جرعات التفكير النقدي عبر مختلف مؤسسات المثاقفة العامة، بالإضافة إلى وجود إعلام علمي متخصص قادر على فهم استشكالات المنهج واشتباكات التحليل، وليس إعلامًا عموميًا يتلبس بلبوس العلمية، كما أنه من المتطلبات الرئيسية للاستفادة من ذلك هو توسيع شبكات البحوث البينية والبحوث العابرة للحدود، وانخراط العلماء والباحثين والطلبة في مختلف المستويات في شبكات بحثية ومعرفية متعددة المستويات محليًا وإقليميًا ودوليًا، لتطوير أدوات ونهج التفكير في القضايا الوطنية، ولمعرفة هفوات التناول، واكتساب منظور أكثر اتساعًا لنقد الحقائق العلمية.

أثارت الجائحة فيما يتصل بالعلم المفتوح قضايا مرتبطة بالجوانب الأخلاقية في البحث العلمي، وجوانب مرتبطة بضرورة حماية بيانات المشاركين في الأبحاث، وعدم التوظيف المفرط للعينات البشرية في التجارب المتتالية، وجوانب مرتبطة بالمراجعة الموضوعية للنتائج من قبل المؤسسات العلمية، إلا أنها على الجانب الآخر ستعلمنا كيف نفكر بشكل مختلف، وكيف أن حوارات العموم التي تجري في أوقات الأزمات والمخاطر والتحولات ينبغي أن توازيها حوارات العلم وتدفقات التحليلات والمعلومات التي تنتج عن الممارسة البحثية، وكيف أن علينا أن نراجع المقولات والأخبار والعناوين بنهج العلم وتدبر أدواته وألا نكتفي بما يسوقه الإعلام العمومي من نتائج دراسات غير مؤصلة أو غير مستوعبة للإطار والسياق والحيثيات التي أجريت فيها، فالعلم المفتوح يستطيع إنقاذ المجتمعات إن أحسنت تفعيل حاستها النقدية، ونشطت مجالها العلمي، وأرست متطلبات الثقافة العلمية في بُناها الثقافية العامة.