العدالة المفقودة

06 فبراير 2023
06 فبراير 2023

ما أن ينشأ وعي الطفل الاجتماعي حتى يدرك أن ثمة فقدان للعدالة في العالم، بيد أن إحساس الأطفال بهذا الفقدان يمكن أن يظل مشوشا؛ فهم لا يعرفون منشأ انعدام العدالة هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى يظلون على أمل أن ثمة ما يمكن أن يحدث في المستقبل القريب ويصحح الأمر. لكن الأمر، لسوء حظهم وحظنا جميعا، لا يتصحح لا في المستقبل القريب ولا البعيد، بل يزداد حدة. ومع الوقت تتولد قناعات عند المرء عن العدالة سواء المنشودة منها أو المفقودة، وهذه القناعات تتفاوت كثيرا من شخص لآخر وتدخل في تشكيلها عوامل كثيرة؛ فقد تكون قناعة امرئ: لا عدالة في العالم، لكن لا يمنع أن أسعى إلى تحقيقها على الأقل فيما يتعلق بي. وقد تكون قناعة آخر: لا عدالة في العالم، لكن إن لم تتحقق العدالة في هذا العالم فستتحقق لا محالة في العالم الآخر. أو: لا عدالة في العالم، لذا من السذاجة أن أكون عادلا أنا نفسي مع الآخرين.

وانعدام العدالة هو من المواضيع الشائعة في مجتمعنا ويكاد لا يخلو منه حديث، وهو انعدام عدالة ولّده توزيع الثروات ونهب الثروات وتأليف القلوب بالثروات. وإن أنسى لا أنسى ما قاله موظفٌ رفيع ذات مرة وهو يحاكَم بتهمة اختلاس أموال، فلما ثبتت التهمة عليه قال: كانوا قد وعدونا بعطايا وحققوا ما وعدوا للبعض وتركوني فيمن تركوا، فما كان مني إلا أن أخذت حقي بيدي! وكأنه يقول: لا يهمني إن كان المال ذاك من حقي أو من غير حقي في الأصل لكنّ الآخرين الذين على شاكلتي أخذوا ولذا يصبح من حقي أن آخذ. ثمة منطق فيما قال لكنه منطق ظاهر الالتواء وكما هو متوقع لم تقبله «عدالة» المحكمة. إن انعدام العدالة لهو مما يوّلد غضبا كبيرا في القلوب؛ فالظلم يحرك ظلمات النفوس وشرورها القابعة بل ويبررها أحيانا؛ فلماذا أقبع أنا تحت مظلة التسامح والهدوء و«أفك الثم» فيما أرى الآخرين متنعمين بما وُهِبوا وما نَهَبوا؛ إن النفس تنتصر لنفسها ولا يجب أن ترضى بالضيم!

فإن كنتَ في داخلك غاضبا على النهب والسلب؛ ظاهره وباطنه، ما علمنا منه وما لم نعلم، فربما من الجيد أن تسائل نفسك ما الذي يجعلك غاضبا فعلا؟ هل فعلا أنت مع محاربة الظلم وتسعى لتحقيق العدالة أم أنك تقول في نفسك فحسب اعطوني كما أُعطِيتم وإلا نهبتُ كما نهبوا؟ ليس من الغريب أن تجد من يتحدث معك بسعة وعمق في موضوع انعدام العدالة ويلقي باللوم على هذه الجهة أو تلك، وحين تُشعِره أنه أيضا، بطريقة أو أخرى، قام ببعض النهب «البسيط» فإنه يتخذ موقفا دفاعيا؛ يقول مثلا لا تقارن بمن ينهب ملايين وفدادين بمن ينهب ملاليم ودعادين! وربما تكون حجته هنا، إن حسنّاها قليلا، أن من يسرق كثيرا يضر الآخرين كثيرا أما من يسرق قليلا فإنه يضر الآخرين قليلا وقد لا يضرهم على الإطلاق؛ فشتان بين الاثنين. لكن من العادل والآمن القول إن العديد من الناس وهم ينقمون على انعدام العدالة في توزيع الثروات لا ينقمون على انعدام العدالة حقيقةً بل على أنهم لم يحصلوا على ما حصل عليه الآخرون، وأحيانا ينقمون على أنهم لم يسعفهم الحظ أن يسرقوا كما سرق الآخرون، فلا شك أن السرقة أو «أن تُوهَب لك الثروة بعطاء ظالم» لا يمكن أن يحدث إلا للشخص المناسب في المكان والزمان المناسبين، فالنقمة هنا، كما ترون، ليست على انعدام العدالة بل على انعدام الحظ! يكمن انعدام العدالة هنا في أنني لم أحظ بفرصتي في السرقة، وإن حظيتُ على الفرصة فإنها لم تكن فرصة ذات قيمة كبيرة!

على العموم وأيا كان السبب الذي من أجله يستشيط الناس غضبا على انعدام العدالة في توزيع الثروات أو نهب الثروات، حقه وباطله، قانونيه وإجراميه، فإن هامش قدرة الناس على تحمل الظلم ليس كبيرا، وخصوصا حين تتأثر أرزاقهم ومعاشاتهم وتنخر الضرائب دخولهم ومدخراتهم من غير أن يكون لديهم الحق في اتخاذ بعض القرارات بأنفسهم. قد يكون البعض قادرين ما زالوا على أن يقولوا «ليتفحّموا بما أخذوا قي قعر الجحيم!» أو «لن يأخذوا أموالهم معهم إلى القبر!»، وهؤلاء البعض أغلب الظن أن يكونوا من طبقة لا تزال تعيش بكرامة ولا تزال لديهم القدرة على أن يصدوا أنفسهم من ارتكاب النهب بأنفسهم عن طريق قناعاتهم العادلة والمنطقية، أو المصطنعة والممنطَقة، فماذا لو انسحقت هذا الطبقة بفعل المد الغاشم من سوء الإدارة وسوء توزيع الهبات والأعطيات والثروات، هل سيكون في قدرتهم، أي هؤلاء البعض، أن يقفوا على الحياد ويتركوا انعدام العدالة لرب العباد كليّ العدل؟