العالم المفرط في الترابط ..وتأثير الفراشة
إن من أكثر الحقائق العلمية إبهارا عن الدماغ البشري أنه يمكن اعتباره كأي عضلة أخرى في جسم الإنسان؛ حيث تزداد قوته ولياقته مع كثرة تمرينه واستخدامه، وفي المقابل يضمر ويتراخى في فترات الراحة وقلة الاستخدام. ولعل مما يمكن أن يضمن اللياقة الذهنية الدائمة الظروف المحيطة بأي عملية عقلية يؤديها الدماغ، ذلك أن الدماغ في كل الأحوال مستمر في معالجة كل ما يتعرض له من أحداث ومعلومات. ويمكن أن يكون ما يحدث الفرق من أجل إثبات وتوضيح هذه الفكرة تباين الخلاصات التي يمكن أن يتوصل إليها دماغ الشخص أثناء أحاديث عرضية في مناسبة اجتماعية مقابل ما يمكن أن يتوصل إليه الدماغ أثناء محاضرة علمية ثرية لأحد العلماء المنتمين لأرقى المؤسسات الأكاديمية عالميا. وقد لا تكون تلك الخلاصات مجرد نتيجة طبيعية لمحتوى محاضرة علمية أو نقاش في الجزء الأخير منها، بل تتحدد بالطريقة التي تتم بها برمجة الدماغ في سبيل معالجة ما يتعرض إليه من أحداث ومعلومات بما يؤدي إلى التحكم بشكل أفضل في كيفية أداء الدماغ - إذا ما أسقطنا مفهوم تمرين العضلة في هذا السياق - وكنتيجة نهائية الحصول على خلاصات أفضل.
تتبع جامعة أوكسفورد منهجية محددة في التفكير تجاه المشكلات التي تواجه الدماغ البشري الذي يسعى إلى إيجاد الحلول لها؛ ويتجلى ذلك في الإرشادات التي يتبناها منسوبوها من أكاديميين وعلماء أثناء محاولة إيجاد حلول لمشكلات أو إجابات لأسئلة معقدة. تقول تلك الإرشادات بأنه من أجل الوصول إلى أفضل النتائج فإنه يتوجب علينا التعلق بصميم المشكلة وإمعان التفكير في كافة جوانبها وأبعادها عوضا عن السعي بشكل مباشر إلى التفكير والبحث عن الحلول والإجابات، حيث يمكن أن تقود منهجية التفكير تلك إلى حلول وإجابات متنوعة يتم التوصل إليها في أوقات مختلفة بما يضمن إمكانية تبني أنسبها وأكثرها فاعلية. إن إمعان التفكير في المشكلة ذاتها يمكننا أيضا من تقليل مستوى التعلق بالحلول التي قد نتوصل إليها بشكل مباشر والذي يؤدي بدوره إلى حجب أنظارنا عن حلول أخرى أنجع وأكثر فاعلية.
إن إمعان التفكير بشكل مستمر سواء في أكثر المشكلات تعقيدا أو أبسط الظواهر من حولنا يضمن لنا الحصول على نتائج متجددة بشكل مستمر، ويمكن على سبيل المثال التعمق في التفكير لمحاولة فهم ظاهرة الأحداث المتسارعة التي نشهدها من حولنا والكم الهائل من المعلومات المرتبطة بها بشكل يومي ما يؤدي إلى شعورنا الغريزي بعدم الاستقرار أو حتى قرب نهاية العالم. إذن هل فعلا تتسارع تلك الأحداث حول العالم؟ وهل بات العالم يحوي أحداثا يومية أكثر من أي وقت مضى؟ بإمعان التفكير في هذا الموضوع يمكن التوصل إلى حقيقتين أساسيتين تندرجان تحت مبدأ واحد يعرف بـ «العالم المفرط في الترابط Hyper-connected World». وقبل التوسع في الحقيقتين فإن من المهم النظر في مفهوم العالم المفرط في الترابط، حيث يتفق كل من المنتدى الاقتصادي العالمي WEF ومجموعة بوسطن الاستشارية BCG على أن العالم المفرط في الترابط يعني وجود مظلة تشمل مختلف القطاعات تصل بين النقاط في كل الصناعات بما يساعد في فهم وإدارة التبعات الاجتماعية والاقتصادية والسياسية للتطور التقني. ويشمل هذا المفهوم حسب المؤسستين مختلف جوانب الحياة من التنقل والرعاية الطبية وتبادل المعلومات وغيرها، مفترضةً - المؤسستان - أن في العام 2020 كان هنالك أكثر من 50 مليار جهاز مترابط.
إن الحقيقة الأولى الناتجة عن مفهوم العالم المفرط في الترابط هو أن ذلك الترابط نفسه يؤدي إلى تسلسل الأحداث الناتجة عن حدث أولي بغض النظر عن حجمه، وهو ما يشمل أيضا فكرة «تأثير الفراشة Butterfly Effect». إننا لو نظرنا إلى الأحداث الدائرة من حولنا لوجدنا أن معظمها يحدث بسبب ترابط العالم بشكل غير مسبوق، ويمكن إسقاط هذه النظرة على الظواهر الاقتصادية والاجتماعية والسياسية التي تؤثر على حياتنا بشكل يومي. ويمكن القول أن ترابط العالم بالشكل الحالي قد أوجد العديد من جوانب التعامل والتفاعل بين البشر - دولا ومنظمات وأفرادا - ما أدى إلى إيجاد بيئة أكثر خصوبة لحدوث عدد أكبر من «تأثير الفراشة»؛ ففي حالة انتشار جائحة كورونا لم تكن الجائحة لتنتشر عالميا لولا المستوى العالي للتعامل والتفاعل بين البشر الذي تيسره عوامل مثل سهولة السفر بين الدول والمرافق والبنى الأساسية المشتركة ووسائل النقل العام المتطورة وغيرها. إن من الصادم معرفة أن جائحة الإنفلونزا الإسبانية قبل أكثر من مائة عام كانت قد انتقلت بمفهوم مشابه رغم أن العالم لم يكن مترابطا كما هو اليوم؛ حيث أدت عمليات التجنيد ونقل الجنود الأمريكان بين جبهات الحرب العالمية الأولى إلى أن تنتقل العدوى من طباخ معسكر الجند في ولاية كانساس الأمريكية إلى زملائه من الجنود الذين نقلوها بدورهم في بقاع مختلفة من العالم.
أما الحقيقة الثانية عن مفهوم الترابط المفرط فهي أنه وبسبب التطور التقني فقد أتاح لنا ذلك الترابط التعرض للعديد من المعلومات والأخبار التي لم نكن لنعرف عنها في فترات تاريخية سابقة كانت فيها الأحداث والقصص تنتقل بالتواتر والرواية. ويمكن القول بأنه بينما عرف العالم عن قصة مقتل الأمريكي جورج فلويد على يد شرطي خلال ثوان معدودة فقط وأشعل موجة عالمية من التعاطف تجاه السود، تطلب الأمر من مارتن لوثر كينج 18 عاما من الكتابة والتظاهر والزيارات المحلية والدولية من أجل حشد الدعم لقضية العنصرية تجاه السود. لقد ضمن مفهوم العالم المفرط في الترابط وجود زخم متسارع لانتشار الأخبار والأحداث بيننا، وهو ما يؤدي بطبيعة الحال إلى نتائج سريعة من التأثير. إن وجود منافذ التواصل على راحة اليد وتقلص المسافة التي تفصل بيننا وبين المخزون الهائل من المعلومات والأخبار إلى أطراف أصابعنا تجعلنا نشعر بشكل لا إرادي أن هنالك من الأحداث المتصاعدة حول العالم ما يكفي لإنهاء الحياة فيه. ومن يدري؟ فربما تكون تلك المعلومات هي الأخرى رفّة جناح الفراشة الذي قد ينتج عنه إعصار نهاية العالم.
بدر بن عبدالله الهنائي مهتم بالاتصالات الاستراتيجية والهوية المؤسسية
