الصين بين القوة الناعمة وحل الأزمات الدولية

28 مارس 2023
28 مارس 2023

منذ صعودها المذهل على صعيد النمو الاقتصادي في بداية عقد الثمانينيات من القرن الماضي والصين تبرز مجددا كأحد الخيارات الإيجابية على صعيد المسرح الدبلوماسي الدولي من خلال عدد من المبادرات في مجال الاقتصاد، والاستثمار في الدول النامية، حيث مبادرة الحزام والطريق أو من خلال توسيع نطاق الاستثمار المكثف في إفريقيا وأمريكا اللاتينية والمنطقة العربية، وأخيرا نجحت الدبلوماسية الصينية ومع الجهد السياسي العماني والعراقي في احتواء الخلاف بين السعودية وإيران من خلال اتفاق بكين الذي يمهد عودة العلاقات الدبلوماسية بين الرياض وطهران بعد قطيعة استمرت عدة سنوات.

هناك شعور قوي داخل الكثير من الدول في المنطقة والعالم أن الدور الدبلوماسي الصيني أصبح أكثر مصداقية في حل الأزمات الإقليمية والدولية، وقد أشرنا في عدة مقالات إلى أن دور الدبلوماسية الأمريكية يتراجع، وهناك أزمة ثقة حقيقية حول الدور الأمريكي خاصة فيما يخص قضية العرب المركزية، وهي القضية الفلسطينية بعد عقود من الانحياز الأمريكي لصالح الكيان الإسرائيلي، ومن هنا فإن الخيار الصيني أصبح أكثر قبولا خاصة أن الصين قدمت تصورات ومبادرة لحل الأزمة الروسية الأوكرانية وتبعاتها الاستراتيجية والاقتصادية على العالم. ومن هنا فإن القوة الناعمة الصينية التي تقوم على آلية الحوار والمصالح الاقتصادية، ونبذ القوة المسلحة تبدو أكثر إقناعا لدى دول العالم النامية، ولعل التراجع الفرنسي في القارة الإفريقية يعطي مؤشرا أن هناك تغيرا استراتيجيا فيما يخص النظر إلى الدور الاستعماري القديم للدول الغربية، خاصة فرنسا وبريطانيا وحتى فيما يخص الدور الأمريكي الذي شن عشرات الحروب وغزو الدول، وإيجاد مناخ من التوتر وغياب النسيج الاجتماعي الواحد، الذي رأيناه متجسدا في العراق وحتى أفغانستان علاوة على التدخل الأمريكي في سوريا وليبيا، وعدد من دول أمريكا اللاتينية ذات الاتجاه الاشتراكي. والمشهد السياسي الدولي يشهد تغيرات حاسمة فيما تبقى من هذا القرن في ظل اشتعال الحرب الروسية الأوكرانية، التي سوف تكون عاملا فاصلا فيما يخص النظام الدولي الجديد الذي سوف تنهي القطب الأمريكي الأوحد على الساحة الدولية، وسيكون مفيدا للمجتمع الدولي وقضايا شعوبه المختلفة.

إن توقيع الاتفاق السعودي الإيراني في العاصمة الصينية بكين له دلالة سياسية كبيرة خاصة وأن الولايات المتحدة الأمريكية وعلى مدى عقود تعد منطقة الخليج العربي منطقة ذات نفوذ أمريكي لأسباب تتعلق بإمدادات الطاقة، وطرق التجارة البحرية وتأمين الأمن للكيان الإسرائيلي، وعلى ضوء ذلك فأن ما حدث في بكين هو تحول سياسي بدأت ملامحه، وأن الرسالة السياسية قد وصلت إلى واشنطن.

ليس هناك شك أن الأزمة بين الرياض وطهران كانت عاملا للتوتر تستفيد منه واشنطن والكيان الإسرائيلي، وكان ذلك يكلف دول المنطقة كلفة اقتصادية وأمنية كبيرة، كما أن موضوع الحماية العسكرية الأمريكية للأمن في المنطقة انكشف بعد أن تعرض عدد من المرافق السعودية الحيوية في مجال الطاقة إلى هجوم بالصواريخ من قبل جماعة الحوثيين في اليمن، وكان الرد الأمريكي سلبيا، وفي تصوري أن السعودية أدركت أن الولايات المتحدة الأمريكية أصبحت تناور بالملف اليمني، وأيضا بموضوع إيران كفزاعة في المنطقة. ومن هنا جاء الدور الصيني في الوقت المناسب، وفي ظل ظروف سياسية معقدة ولعل ذلك الاتفاق السعودي الإيراني سوف يمهد لإيجاد علاقات طبيعية بين إيران ودول مجلس التعاون لدول الخليج العربية على ضفتي الخليج العربي، وتبادل المصالح المشتركة، كما كان دوما منذ عشرات السنين. كما أن الأزمة اليمنية سوف يتم حلها خاصة أن الجهد الدبلوماسي العماني وصل إلى مرحلة متقدمة لإنهاء الحرب في ظل وجود الهدنة ومباحثات الفرقاء اليمنيين في جنيف لتبادل الأسرى، كما أن عودة العلاقات الدبلوماسية السعودية الإيرانية سوف يفتح المجال نحو إيجاد حلول واقعية للوضع في لبنان، وفي العراق بمعنى آخر ستشهد أزمات المنطقة تطورا إيجابيا، ومن هنا فإن الصين قدمت نفسها كدولة كبرى، ولكن من خلال قيم السلام والاستقرار، وتبادل المصالح المشتركة بين دول العالم المختلفة، ونظرية الحروب والصراعات سببت كوارث للشعوب، وخسارة كبيرة للمقدرات خلال العقود السبعة الأخيرة.

كما أن الدول الغربية أبقت على استغلال الدول النامية، وما حدث لفرنسا في عدد من الدول الإفريقية هو مؤشر على إحساس تلك الدول بأن تلك الدول الغربية استغلت ثروات إفريقيا وأبقتها دول فقيرة رغم إمكانياتها وثرواتها الكبيرة، ومن هنا فالمشهد السياسي الإقليمي والدولي يشهد متغيرات على صعيد التحولات المختلفة، كما أن الأزمات الاقتصادية التي شهدتها الولايات المتحدة الأمريكية خاصة على صعيد إفلاس عدد من البنوك وقضايا التضخم، وأسعار البنزين، والدور المحوري التي أصبحت مجموعة بريكس تلعبه على صعيد التعامل بالعملات المحلية يعطي مؤشرا واضحا أن النظام الدولي يتجه نحو التغيير من خلال نظام دولي متعدد الأقطاب، وهو أمر في صالح العالم وقضاياه المختلفة، خاصة أن الولايات المتحدة الأمريكية فشلت بعد تفكك الاتحاد السوفييتي السابق عام ١٩٩١ في إيجاد مقاربة سياسية لحل الأزمات الإقليمية، ومحاربة الفقر والمشكلات الاجتماعية في دول العالم النامية حتى الأمم المتحدة التي كانت الدول النامية تعول عليها أصبحت أكثرا ضعفا، وتراجعت القضية الفلسطينية سياسيا وإعلاميا بسبب الإدارات الأمريكية وخاصة إدارة ترامب التي انتهكت قرارات الشرعية الدولية من خلال قرارات متهورة، منها اعتبار القدس المحتلة عاصمة أبدية للكيان الإسرائيلي، وهي مدينة لا تزال محتلة بموجب قرارات الأمم المتحدة، كما أن إدارة ترامب أعطت الجولان المحتل عام ١٩٦٧ للكيان الإسرائيلي، وهو إقليم سوري محتل، كما أن الولايات المتحدة الأمريكية على مدى عقود سببت كوارث إنسانية، وتم قتل الملايين من المدنيين في فيتنام وكوريا والفلبين واليابان، حيث قصفت مدن هيروشيما ونجازاكي بالقنابل النووية، علاوة على غزو بنما، والعراق، وأفغانستان، والانحياز للكيان الإسرائيلي ومده بالمعونات المالية والعسكرية.

وأمام هذا المشهد السياسي فإن الخيار الصيني على الصعيد الدبلوماسى يعد دورا إيجابيا، وبدأت ملامح نجاحه من خلال احتضان بكين لتوقيع الاتفاق السعودي الإيراني، والمبادرة نحو إيجاد حل سياسي للأزمة والحرب في أوكرانيا.