الصخب الإسرائيلي السابق لأوانه لماذا؟!
ليس غريبًا أن تحرص إسرائيل على الاحتفال بذكرى إنشائها عام 1948، إذ إنها تعمل على التذكير بكل السبل بوجودها على حساب الأراضي الفلسطينية والعربية المحتلة وبقوة تأثيرها، أو بمعنى أدق عربدتها في الأراضي المحتلة، خاصة في السنوات الأخيرة بحكم ما مرت وتمر به المنطقة والأوضاع الفلسطينية والعربية من تفاعلات أثرت ولا تزال تؤثر بالسلب إلى حد كبير على مختلف الأوضاع السياسية والاقتصادية والاجتماعية وبالطبع أولويات القضايا وحسابات الدول والأطراف الإقليمية المختلفة حيالها.
وقد جرت في القدس المحتلة قبل أيام احتفالات حول المسجد الأقصى المبارك وعلى عدد من بواباته التي تحاصرها قوات الشرطة والأمن الإسرائيلية لتأمين الانتهاكات والأعمال الهمجية التي يقوم بها المستوطنون الإسرائيليون وبمشاركة وزراء وسياسيين وأعضاء في الكنيست وبشكل يكاد يكون يوميا على مدى الأشهر الأخيرة وخاصة منذ تشكيل الحكومة الإسرائيلية الحالية بتكوينها الراهن.
وبغض النظر عن مسيرة الأعلام الإسرائيلية والجدل حولها وتنظيم الفلسطينيين في غزة مسيرة أعلام موازية للرد عليها، فإن من أكثر ما أثار الانتباه والأسف والتساؤل هو المشهد العام للاحتفالات والذي يشبه احتفالات «الموالد» الشعبية حول أضرحة بعض الأولياء في القرى المصرية بصخبها وازدحامها، وبدت أقرب إلى التجمعات والاحتفالات الشعبية التي تسعى إلى تكريس مفهوم ما يشعر المسؤولون عن تنظيمها إنه موضع شك عميق وتأتي الاحتفالات لمحاولة تكريسه ولو بهذا الشكل الفولكلوري الذي يجمع أكبر عدد من الشباب والفتيات في جو صاخب، أضفى عليه وجود وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي «إيتمار بن غفير» وحراسه بعدًا انتقل بالمشهد من البعد الفولكلوري الاحتفالي إلى البعد السياسي المخطط والمتعمد أيضا، وهو ما ينبغي التوقف أمامه والإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها ما يلي: أولا، إنه في ضوء الانتخابات الإسرائيلية التي جرت في نوفمبر الماضي، فإن الحكومة الحالية التي يرأسها نتانياهو رسميا، يمكن وصفها دون مبالغة إنها أقرب ما تكون إلى حكومة «إيتمار بن غفير» وزير الأمن الداخلي، الذي سبق وهدد بالانسحاب من الحكومة، وبالتالي إسقاطها، خلال أزمة إقالة نتانياهو لوزير الدفاع الإسرائيلي من ناحية والخلاف حول إنشاء ميليشيا خاصة أو حرس وطني إسرائيلي في وزارة الأمن الداخلي الإسرائيلية، وهو ما اضطر نتانياهو للقبول به بعد تغيير بعض الألفاظ في الصيغة التي اقترحها «بن غفير» بالفعل منذ حملته الانتخابية أواخر العام الماضي من ناحية ثانية.
ولعل ما يعزز الوصف الذي يزعج نتانياهو بالتأكيد هو أن تأثير التيار الديني المتطرف على الأرض والذي تعبر عنه الصهيونية الدينية والكاهانية الإسرائيلية بقيادة «بن غفير» و«سيموتريتش» قد ظهر بوضوح وعلى نحو متواصل على مدى الأشهر الأخيرة، وبوتيرة غير مسبوقة، سواء في اقتحامات المسجد الأقصى ليس فقط من جانب المستوطنين، والأكثر من هذا أن يتم ذلك بمشاركة وزراء في مقدمتهم «بن غفير» ذاته وأعضاء في الكنيست الإسرائيلي وذلك بعد يومين من تشكيل الحكومة وحتى الآن، ولكن أيضا التصعيد المستمر والممنهج للأعمال الهمجية وللاجتياحات التي تمارسها إسرائيل ضد المعسكرات والمدن الفلسطينية وتصعيد أعمال الاعتقال والقتل بدم بارد للمقاومين الفلسطينيين والتنكيل المتزايد بالأسرى وزيادة الضغوط عليهم بكل السبل الممكنة. وفي حين وجدت كل تلك الممارسات الهمجية قبولا من نتانياهو الذي يوافق عليها في الواقع، حتى وإن كان يريد إلقاء مسؤوليتها على «بن غفير»، فإن الأمر سيزداد سوءا خاصة بعد موافقة مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر على عودة المستوطنين إلى مستوطنة «حومش» بين نابلس وجنين في الضفة الغربية المحتلة والتي كان قد تم إخلاؤها منذ عام 2005 بقرار قضائي إسرائيلي، في إطار اتفاق بين رئيس الوزراء الإسرائيلي الأسبق أرييل شارون والرئيس الأمريكي الأسبق بوش الابن في ذلك الوقت، وبالفعل سمح الجيش الإسرائيلي في 20 مايو الماضي للمستوطنين بالعودة إلى حومش في انتهاك صارخ للقوانين الدولية ولقرارات القضاء الإسرائيلي بغض النظر عن الإدانة الأوروبية الخجولة لهذه الخطوة التي يريد بن غفير تحويلها إلى سابقة للعودة إلى بؤر استيطانية كان قد تم إخلاؤها من قبل. يضاف إلى ذلك أنه تم الإعلان في إسرائيل عن التخطيط لإقامة مستوطنات جديدة في ضواحي القدس المحتلة وهو ما يعد ترجمة لتوجهات «بن غفير» وزملائه أنصار الكاهانية والصهيونية الجديدة والمستوطنين في الحكومة. جدير بالذكر أن وزير الأمن الداخلي الإسرائيلي «بن غفير» عاد إلى ما كان قد أعلنه خلال الحملة الانتخابية الأخيرة، حيث تحدث قبل أيام عن عزمه طرح مشروع قانون أمام الكنيست يسمح بإعدام الأسرى الفلسطينيين المتورطين في عمليات عنف داخل إسرائيل، وهو أمر بالغ الخطر يفتح المجال أمام مزيد من عمليات التصفية الجسدية لرجال المقاومة الفلسطينيين بكل ما يترتب على ذلك من إشعال لجذوة النار المتأججة في الأراضي المحتلة.
ثانيا، إنه في الوقت الذي تدفع فيه حكومة نتانياهو - بن غفير الأوضاع في القدس الشرقية المحتلة والمسجد الأقصى المبارك نحو التصعيد وإمكانية الانفجار في أي وقت، وذلك من خلال تشجيع الاقتحامات اليومية لباحات المسجد الأقصى من جانب مجموعات المستوطنين وعلى مدار الأسبوع تقريبا، في محاولة لفرض أمر واقع جديد بالتقسيم المكاني والزمني للمسجد الأقصى على غرار المسجد الإبراهيمي في نابلس، وذلك بشكل تدريجي لاحتواء الغضب الفلسطيني والعربي والإسلامي المتوقع بقدر الإمكان والمراهنة على الوقت لتنفيذ الأهداف الاستيطانية وعمليات التهويد في القدس الشرقية والضفة الغربية عموما، فإنه ينبغي التوقف أمام نقطتين بالغتي الأهمية، الأولى فلسطينية، وتتمثل في إعلان وزارة الخارجية والمغتربين الفلسطينية الأسبوع الماضي، ردا على التوسع الاستيطاني في القدس والمنطقة (ج)، إن إسرائيل تعمل على ضم الضفة الغربية بما فيها القدس الشرقية وتعميق نظام الفصل العنصري في فلسطين المحتلة بدلا من تطبيق مبدأ حل الدولتين، ويعني ذلك في الواقع أن الرؤية واضحة أمام الفلسطينيين. أما النقطة الثانية فهي إسرائيلية وأطلقها بن غفير بوقاحة وتحد خلال اقتحامه للمسجد الأقصى خلال الاحتفالات بذكرى إنشاء إسرائيل، إذ أعلن من باحة المسجد المبارك، «إن السيادة هنا لنا» وهذه هي المرة الأولى التي يعلن فيها وزير في الحكومة الإسرائيلية مثل هذا الموقف الذي يتحدى كل المشاعر والأعراف والقرارات الدولية ذات الصلة بالقدس ويكشف على نحو واضح عن الهدف الإسرائيلي الذي يريد «بن غفير» تسويقه لصالحه ولحسابه السياسي أيضا في إطار التنافس على رئاسة الحكومة في إسرائيل بعد نتانياهو أو حتى في وجوده إذا سقطت الحكومة الحالية أو تم دفعها إلى السقوط على يد بن غفير وشركائه. على أية حال فإن هذا الإعلان الذي سيكون له بالضرورة تداعياته الفلسطينية والأردنية والعربية والإسلامية يجعل الأنظار تتجه نحو الساحة الفْلسطينية بكْل مكوناتها وتفاعلاتها وتحدياتها أيضا.
ثالثا، إنه في الوقت الذي تظهر فيه فصائل المقاومة الفلسطينية في قطاع غزة إصرارا على تطوير وتنمية قدراتها القتالية ضد قوات الاحتلال الإسرائيلي وهو ما عبر عن نفسه في أكثر من مواجهة مع قوات الاحتلال أجبرت الجيش الإسرائيلي على التدرب على القتال على أكثر من جبهة في الأيام الأخيرة، وكان قد نسي ذلك من سنوات، فإن عبئا ومسؤولية ضخمة ومباشرة تتحملها الفصائل الفلسطينية، خاصة تلك التي لا تزال تؤمن بفاعلية المقاومة، وهي العمل الجاد والمخلص لتوحيد أو على الأقل التنسيق الأعمق تدريبيا وقتاليا وتخطيطيا لإنهاء الاحتلال؛ لأن الظروف الفلسطينية والعربية والإقليمية باتت تفرضه اليوم أكثر من أي وقت مضى. ومع تقدير وتفهم ظروف كل الأطراف إلا أن على الفلسطينيين إدراك أنهم بالضرورة هدم المقدمة والمفرزة الأولى، مع الاستفادة مما يمكن أن يقدمه الأشقاء من دعم، فقد تغيرت الظروف والحسابات والمصالح كثيرا عما كانت عليه من قبل. وإذا حدث ذلك فإن صخب إسرائيل سيكون مبكرا جدا.
د. عبدالحميد الموافي كاتب وصحفي مصري
