الزمن بين الصدى والاستلاب

05 ديسمبر 2021
05 ديسمبر 2021

كيف يكيف التقدم التقني ومنطق النمو علاقتنا بإيقاعات الزمن والإحساس بالحياة؟

سؤال طرحه أكثر من مفكر ومن باحث، وعولج من زوايا وطرقٍ مختلفة؛ ويعمل الفيلسوف الألماني هارتموت روزا، منذ سنوات، على تعميق النظر في هذا السؤال من زاوية علاقة النمو بالتسارع وبالحياة الطيبة؛ إذ بمقدار ما نسرع نحتاج، في الآن نفسه، إلى تدبير مهام تواصلية جديدة، تعرضنا لضغطٍ متصاعدٍ ولبذل مجهوداتٍ أكبر.

يتميز المجتمع الحديث بكونه في حاجةٍ دائمة إلى النمو، وإلى التسارع، وإلى الابتكار من أجل الحفاظ على الوضع القائم أو بهدف تطويره، إذا ما أراد ضمان الاستقرار والتجاوز. ولا يكف الاقتصاديون عن تكرار الحاجة إلى النمو؛ إذ في عرفهم ما لم تحقق البنيات الإنتاجية الاقتصادية ما يلزم من نمو سيترتب عن ذلك نتائج غير مفرحة مثل البطالة، وانتشار مظاهر الأزمة، وانهيار وظائف دولة الرعاية. ولذلك فإن المجتمع العصري لا يمكنه الحفاظ على ذاته إلا بفضل النمو، والابتكار، والتسارع. هذا هو منطق الرأسمالية، بحسب هارتموت روزا.

وينسحب الأمر نفسه على العلوم الحديثة التي لا تبحث عن شروط المحافظة على المعرفة ونقلها فقط، بل تسعى إلى إنتاج معارف جديدة من دون توقف. ويحرك المنطق ذاته مجالي السياسة والقانون في بحثهما عن تقليص أزمنة الانتخاب وإنتاج قوانين جديدة؛ كما هو شأن ميادين الفنون والآداب التي ينتظر الناس منها أن تكون أصيلة ودينامية بدل إنتاجها أعمالا تقتصر على المحاكاة، وإعادة إنتاج النصوص والصور المستهلكة.

هكذا تدفع الحداثة بالعالم المادي والاجتماعي والفكري إلى الحركة بأسرع ما يمكن؛ ولاسيما أنها تتيح التطلع إلى الإكثار من الأشياء والاتصالات طمعا في توسيع ممكنات اختياراتنا. ولعل المبدأ الجوهري للحداثة يتمثل في توسيع دائرة هذه الممكنات في الآن نفسه الذي تخلق فيه مشكلة زمنية؛ وحين تستعصي علينا الزيادة في كمية الزمن، نضطر إلى تكثيفه.

نحو العيش أكثر من حياة

ثمة، إذن، داخل التسارع، كما ينظر إليه هارتموت روزا، أبعاد ثلاثة: التسارع التقني (التواصل، والنقل، والتلوث أيضا...)، والتسارع الاجتماعي ( تسارع التغير الاجتماعي الذي يهددنا بعدم الاستقرار)، وتسارع إيقاعات الحياة (التي هي محاولة جواب عن الظواهر الشاملة التي تدفعنا إلى القيام بأشياءٍ كثيرة في الوقت ذاته).

تشكل هذه الأبعاد الثلاثة نسقا مغلقا، بحيث يتغذى كل مكون من الآخر لتنشيط إيقاع التسارع؛ وتحرك هذه الأبعاد قوى منشطة ثلاث: المال والمنافسة اللذان يمثلان محرك الاقتصاد (باعتبار أن الزمن هو المال)، والتمايز الوظيفي (على صعيد تقسيم العمل خصوصا) والمحرك الثقافي (الذي هو وعد يبرز مظاهر التسارع).

فكلما أسرعنا، نتمكن من إنجاز أشياء كثيرة قبل موتنا، ومتى ما ضاعفنا من سرعة حياتنا، يحتمل أن نعيش أكثر من حياة. لا شك أن الأمور لا تسير على هذا المنوال دائما، طالما أن استبطاننا لمطلب التسارع يفرض منطقا من التطلع إلى مزيدٍ من السرعة والنمو والابتكار، ومن الإحساس بالحاجة الدائمة إلى طاقاتٍ فيزيائية، فردية وجماعية، للحفاظ على هذا "الاستقرار الدينامي"، وإلى بذل أكبر قدرٍ ممكن من الجهود لضمان تطور العالم وللبقاء في معمعة المنافسة.

يترتب عن ذلك شعور بأننا أمام حركة تتطلب نزوعا مستمرا إلى الزيادة من وتيرتها، بحيث يتملكنا شعور بأن الابتكار، والتسارع، والنمو لا يساعد على تحقيق أي شيء جديد ينحو نحو التقدم، وإنما يحافظ عليه لتجنب الأزمة والكارثة؛ فليست المجالات كافة قادرة على أن تسير في اتجاه التقدم، وهو ما تبينه الأزمة البيئية بوضوحٍ كبير، أو حالات الاكتئاب التي هي ردود أفعال على عالمٍ مفرط السرعة، حيث يجد المرء نفسه يجري دائما بشكلٍ أسرع وتحت الضغط، لكن من دون أن يصل إلى غاياته دائما، وكأنه يتحرك في عالمٍ من دون اعتراف.

ما العمل إذن؟

للجواب عن هذا السؤال انخرط هارتموت روزا، مع فريق عمل في جامعة " يينا" في ألمانيا، في برنامجٍ بحثي تحت عنوان "تجاوز مجتمع النمو"؛ وتكمن فكرته المؤسسة في إيجاد عالمٍ يمكنه أن ينمو ويسرع ويبتكر، ولكن من دون أن ينتج الوضع نفسه. من هنا يرى روزا أن المجتمع لا يمكن أن يكون رأسماليا فقط، في هذه الحالة، بل يتعين أن يؤسس لديمقراطيةٍ اقتصاديةٍ أو لاقتصادٍ ديمقراطي. ولكي يكون هذا المجتمع ممكنا، يتعين إدخال إصلاحاتٍ اقتصادية، وإصلاحاتٍ في الدولة الراعية التي لا ينحصر دورها في إعادة توزيع نتائج النمو. كما أنه لتجاوز منطق المنافسة يجب بلورة فكرة أساسية تتعلق بـ"الحياة الطيبة" والعيش الكريم.

ما الذي يجعل حياتنا ناجحة؟

سؤال يستدعي الانتباه إلى أنه من الخطأ، ثقافيا، التفكير في اعتبار حياتنا طيبة وكريمة إذا ما كانت مسرعة، أو توفر اختياراتٍ وممكناتٍ أكبر؛ بل إن حياتنا تكون ناجحة في لحظات حدوث الصدى Résonance الذي ينجم عن الشعور بأننا نتحرك في سياقٍ يتجاوب مع ذواتنا ويتوجه إلينا. كما نعثر على ذلك، أحيانا، داخل العائلة، أو في العمل، أو في الإبداع الفني، فالصدى هو نقيض الاستلاب، ولذلك يتعين علينا إيجاد فكرة مغايرة عن الحياة الطيبة بواسطة الكشف عن الشروط البنيوية التي تعوق تحقيقها، لأنه بهذه الشروط وحدها يمكن تصور وضع التقنية في خدمة التمهل والبطء.

يصوغ هارتموت روزا مفهوم الصدى في سياق إعادة بناء موضوعات التحرر، والعلاقة بما هو مادي وبطبيعة التعالي. والصدى، عنده، هو علاقة ذهنية، عاطفية، وجسدية مع العالم، حيث يتلقى الإنسان فيه جانبا من جوانب العالم أو قسطا منه، يستجيب له من خلال التدخل فيه بشكلٍ ملموس للبرهنة على فعاليته ونجاعته.

ويتميز الصدى بحركتين متكاملتين: الانفتاح على العالم والقدرة على استقبال مكوناته، والفعل فيه والإقرار بتأثير نشاطاتنا فيه. هكذا يستهدف روزا القطع مع المواقف السلبية أو المكتفية بالتلقي الساذج لما يحمله العالم لنا؛ ويرى في الصدى ذلك الإحساس العارم الذي يعتري المرء عند انخراطه الواعي في العالم، وليس مجرد الارتماء فيه.

يغدو الصدى نقيض العلاقة الصماء بالعالم، ولاسيما أن هناك جدلية ما بين الصدى والاستلاب، متى ما علمنا أن هذا الأخير يحصل، في نظر روزا، حين نضيع الاستعداد لإنتاج الصدى الذي يتحقق حين يصدر جواب ملموس من الذات. وهنا لا يغفل روزا الحديث عما يسميه بـ"الصدى المزيف"، مثل ما يقع حين يذوب الفرد في متخيلٍ جماعي يحركه مشروع وهمي أو تسلطي؛ حيث يغدو الأمر، في هذه الحالة، عبارة عن ارتدادات هويةٍ متخيلة أكثر مما هي لقاء فعلي بالعالم واستمتاع بأصدائه المحفزة على الحياة والفرح.

*باحث ومفكر من المغرب

** ينشر المقال بترتيب مع مؤسسة الفكر العربي