الرد العماني المبكر وبعيد النظر !!

09 يناير 2023
09 يناير 2023

بالرغم من أنه كان هناك إجماع على أن حكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتانياهو الجديدة لن تكون فقط أكثر الحكومات الإسرائيلية تطرفا في تاريخ إسرائيل، وذلك بحكم رغبته في حشد كل قوى التطرف اليميني الديني والاستيطاني فيها، لدعم توجهاته الاستيطانية في فلسطين ودفن حل الدولتين بشكل تام، وربما لإدراكه أن هذه الحكومة - التي وصفها رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بيني جانتس بأنها أكثر الحكومات تطرفا وهشاشة - قد تكون الأخيرة التي يمكنه تشكيلها، ولكنها، أي الحكومة الجديدة، ستكون أيضا الأكثر إثارة للتوتر وللمشكلات مع الفلسطينيين وفي المنطقة بحكم طبيعة وتوجهات أعضائها. وهو ما حذرت منه واشنطن ذاتها بوضوح، فإنه لم تكد تمضي خمسة أيام على تشكيل الحكومة حتى قام وزير الأمن الداخلي « بن غفير» باقتحام المسجد الأقصى يوم الثالث من يناير الجاري. ومع الوضع في الاعتبار مختلف ردود الفعل على هذه الخطوة الهمجية التصعيدية والمتحدية لكل المشاعر الفلسطينية والعربية والإسلامية ولكل القواعد والأعراف المنظمة للوضع الراهن في المسجد الأقصى المبارك، واجتهاد مختلف الأطراف في صياغة مواقفها، كل في ضوء ظروفه ومواقفه المعلنة وغير المعلنة، فإنه لم يكن مصادفة أبدا أن الموقف العماني، كان كعادته واضحا وصريحا، بل ومفاجئا لبعض الأطراف في المنطقة وخارجها، التي قد تتحسس منه بشكل أو بآخر نظرا لاعتبارات وحسابات مختلفة. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب لعل من أهمها ما يلي: أولا: إن المقصود برد الفعل العماني المبكر وبعيد النظر هو ذلك الموقف الذي فاجأ به مجلس الشورى العماني الكثيرين في الخليج والمنطقة العربية وعلى المستوى الدولي أيضا، حيث ناقش يوم 26 ديسمبر الماضي مشروع قانون لتعديل المادة الأولى من قانون مقاطعة إسرائيل ( الذي يعود إلى عام 1972 ) وذلك بهدف توسيع نطاق مقاطعة إسرائيل لتستوعب التطورات التي جرت في أنماط العلاقات بين الدول في العقود الأخيرة، ولسد الثغرات التي باتت معروفة في عمليات الاختراق والالتفاف وإنشاء سبل مختلفة لبناء علاقات ومصالح قد تتطور فيما بعد بشكل ما، ومن ثم ضمان «قطع أي علاقات اقتصادية كانت أو رياضية أو ثقافية وحظر التعامل بأي طريقة أو وسيلة كانت سواء كان لقاء واقعيا أو إلكترونيا أو غيره» وبالتالي التوسع في المقاطعة وفي تجريمها أيضا، وهو ما أوضحه الشيخ يعقوب الحارثي نائب رئيس مجلس الشورى العماني. وقد تمت إحالة مشروع القرار بالإجماع إلى اللجنة القانونية في المجلس لدراسته واستكمال الجوانب الإجرائية والتنظيمية اللازمة لإقرار مشروع تعديل المادة الأولى من قانون المقاطعة، وهي إجراءات وخطوات معروفة ومحددة وفق الإجراءات المعمول بها في مجلس الشورى ومجلس الدولة.

جدير بالذكر أنه إذا كانت إحالة مشروع التعديل إلى اللجنة القانونية في مجلس الشورى معززا بموافقة كل أعضاء المجلس قد تمت يوم 26 ديسمبر الماضي، أي قبل أقل من عشرة أيام من اقتحام الوزير الإسرائيلي « بن غفير » للمسجد الأقصى، فإن هذه الخطوة العمانية المبكرة لا يمكن أن تنفصل عن التصرف الأرعن الذي تحدث عنه الوزير الإسرائيلي قبل تشكيل الحكومة، فضلا عن أنها تثبت بعد نظر السياسة والدبلوماسية العمانية، ورؤيتها الصحيحة لاتجاهات الأحداث وللتطورات في المنطقة بوجه عام، ومنها التطورات في الأراضي الفلسطينية المحتلة، حيث تحرص سلطنة عمان على دعم الأشقاء الفلسطينيين وقضيتهم المشروعة بكل السبل الممكنة وفي مختلف الظروف، والأمثلة في هذا المجال عديدة ومتنوعة وفي مختلف المجالات السياسية والدبلوماسية وغيرها.

ثانيا: إن هذه الخطوة التي قوبلت بارتياح جماهيري واسع داخل السلطنة وخارجها أيضا - باستثناء الأوساط المعروفة مواقفها حيال إسرائيل والقضية الفلسطينية بالطبع - تتسم بالكثير من الأهمية في الحاضر والمستقبل كذلك، وبحكم بعديها الشعبي والرسمي أيضا، فهي لا تعبر فقط عن موقف مجلس الشورى العماني والمواطنين الذين يمثلهم المجلس، ولكنها تعبر كذلك عن المجتمع والدولة العمانية، بحكم دور واختصاصات مجلس الشورى في التعبير عن مصالح المجتمع والشعب والدولة في إطار السياسة العامة للدولة وما يحكمها من أولويات وقيم وأسس ثابتة ومستقرة على مدى سنوات طويلة. يضاف إلى ذلك أن ما أشار إليه معالي السيد بدر بن حمد البوسعيدي وزير الخارجية من أن قرار مجلس الشورى بتجريم التطبيع مع إسرائيل « يعد تجسيدا لتطلعات الشعب العماني » يعبر في أحد جوانبه عن البعد الرسمي لهذه الخطوة ذات الامتداد والتفاعل مع كثير من تطورات وتفاعلات هذه الفترة والتي تعرضت وتتعرض فيها سلطنة عمان لضغوط عديدة مباشرة وغير مباشرة، سياسية وإعلامية وغيرها، من أجل محاولة حملها على تطبيع علاقاتها مع إسرائيل في إطار اتفاقيات إبراهام أو خارجها، أو على الأقل السماح بفتح الأجواء العمانية أمام الطيران الإسرائيلي، وهو ما رفضته سلطنة عمان على نحو واضح وحاسم، وبالتالي فإن صدور هذا التعديل بعد اكتمال الإجراءات الخاصة به والتصويت عليه بشكل نهائي في مجلس الشورى، ثم في مجلس الدولة بعد رفعه إليه، ثم رفعه إلى جلالة السلطان للتصديق عليه، سيعني بوضوح أغلاق الباب سياسيا وقانونيا أمام إمكانية التطبيع مع إسرائيل على أي نحو، ومن ثم التأكيد بشكل عملي على أن التصعيد الإسرائيلي يؤدي فقط إلى مواقف ترتد على إسرائيل التي تتحمل مسؤولية زيادة التوتر وعرقلة فرص السلام والدفع بالمنطقة إلى احتمالات تضر بدولها وشعوبها جميعها وإسرائيل لن تكون بمنأى عنها بالتأكيد.

ثالثا: إن السؤال الذي يطرح نفسه في الواقع هو هل تغرد عمان خارج السرب ؟ وهل تطرح نفسها بأسلوب المخالفة ؟ وهل تريد السلام بالفعل؟ وهل لها شروط للتطبيع مع إسرائيل ؟ ومن واقع المتابعة للسياسات العمانية والعربية لسنوات طويلة فإنه يمكن التأكيد على عدة حقائق من أبرزها أن السلطنة تنأى دوما عن «الإعلان عن الذات»، و«لا تهوى الشو الإعلامي ولا تتبنى المواقف الزاعقة »، ومن ثم فإنها لا تسير خارج السرب، ولكنها تتمسك بصدق ومصداقية بالموقف الذي تبنته هي والدول العربية بشكل جماعي من خلال جامعة الدول العربية بالنسبة للسلام مع إسرائيل، والذي جسدته المبادرة العربية في قمة بيروت منذ عام 2002 ؟ ومن منطلق تأييدها للسلام العادل المرتكز على إقامة الدولة الفلسطينية على حدود الرابع من يونيو عام 1967 وعاصمتها القدس الشرقية، فإن عمان أيدت خطوات السلام التي اتخذتها مصر والسلطة الفلسطينية - اتفاقيات أوسلو - والمملكة الأردنية الهاشمية وذلك من منطلق حق تلك الأطراف في صياغة مواقفها وتحديد مصالحها الوطنية بحكم سياداتها ومسؤولياتها الوطنية كأطراف أصيلة في القضية. ومن منطلق الإيمان بمبدأ السلام والعمل للمساعدة في التهيئة له والتشجيع على تحقيقه فإن السلطنة أجرت اتصالات وسمحت بزيارات لرؤساء وزارات إسرائيليين لها في أعوام 1994 و1996 و2018، دون أن يعني ذلك تطبيعا مع إسرائيل ولا قفزا على الحقوق الفلسطينية المشروعة على أي نحو، وظلت مسقط واضحة في التزامها ودعمها للأشقاء الفلسطينيين ولحقوقهم المشروعة، والتأكيد على أن التطبيع مع إسرائيل مرتبط بموافقتها على إقامة السلام العادل والشامل وفق المبادرة العربية وقرارات الشرعية الدولية، وليس على ما يريده نتانياهو وحكوماته التي تريد فرض الأمر الواقع وتهويد القدس وتغيير هوية المسجد الأقصى وتغيير الوضع الراهن فيه ومحاولته فرض مبدأ « السلام مقابل السلام » وليس « الأرض مقابل السلام ». وعلى أية حال فإن سلطنة عمان وبقدر شجاعتها ومرونتها في تأييد السلام العادل والمساعدة في تحقيقه، بقدر التزامها وقوتها في التمسك بالأسس التي يرتكز عليها هذا السلام العادل المتفق مع الشرعية الدولية ومبادرة السلام العربية، فالكلمة الأخيرة هي للأشقاء الفلسطينيين وفي التأييد العربي الجماعي من خلال جامعة الدول العربية لخياراتهم وليس من حق أحد أن يحل محلهم أو يدفع بهم إلى حيث لا يريدون تحت أي مبرر أو ظرف، وسلطنة عمان وعت وتعي ذلك جيدا أمس واليوم ويعد ذلك من أسرار وأسباب مرونة موقفها حيال قضية السلام بوجه عام.