الدولة العميقة عن الاقتصاد الروسي الجديد

29 يونيو 2022
29 يونيو 2022

الترجمة عن الروسية : يوسف نبيل

في عام 1993 كنت قد بلغت عشرة أعوام، الآن نعتبر هذه الفترة نموذجًا لانهيار المجتمع والدولة ووصولهما إلى القاع، لكن في العاشرة نظرت إلى الأمر بطريقة مختلفة بعض الشيء. صار المشهد في الشارع على مدار العامين أو الثلاثة الأخيرة أكثر تشبعًا؛ ظهرت اللافتات الملونة وتشكيلة كبيرة من السجائر الأجنبية في أكشاك البيع، كما ظهرت تشكيلة كبيرة من الشوكولاتة والحليب الرائب والكثير من المشروبات الغازية. عمومًا.. في العاشرة فاق كل ذلك خطورة المشكلة الاقتصادية والسياسية. في زاوية زقاق ستوليشنيكوف وشارع بولشايا دميتروفكا افتُتح متجر ذو واجهات عرض لامعة، وفي إحدى هذه الواجهات عُرضت أحذية شتوية جميلة كنت في حاجة إليها؛ ليس بالضرورة هذا النوع، ولكن مثله. لكن الظروف في هذا الشتاء تعقدت حتى إن والديّ لم يستطيعا أن يشتريا لي أي حذاء؛ ببساطة لم يتوفر مال.

هكذا تصورت حياتنا في نهاية فبراير من هذا العام. لا يوجد مال، ولكن لا يزال هناك شيء جيد، إلا إنه قليل وليس في متناول اليد بتاتًا. بدا لي إن ميزة التسعينيات تمثلت في العلاقات الجيدة بين روسيا والغرب. نعم، كانت بمثابة حماية من جانب الغرب، لكنها كانت مهينة لروسيا إلى حد ما. كما تعلمون، السلام السيئ أفضل من حرب جيدة. بدا السوق حينها وكأنه قد انفلت من عقاله ككلب متوحش وجائع، وبدأ ينبح على شخص ما ويعض شخصًا آخر ويهزأ بثالث ويخدم رابع. تحرر الاقتصاد من كل المبادئ الممكنة؛ وفي مقدمتها السماح بكل شيء حيث تُرك المجال لأن يقرر السوق كل شيء بنفسه لتأتي الأموال بعوائد كبيرة. يجب إرسال المال بالطبع إلى الغرب ليكون في أمان. دعنا نقول إنه كان هناك مصنع مملوك للدولة وتمت خصخصته، ثم فكر المالك الجديد في أن الاحتفاظ بمثل هذا المصنع غير مربح، ومن ثم جهزه ليصير بناية مكتبية، أو حتى لم يعد بناءه بل سلّمه بكل بساطة إلى ورش العمل الصغيرة التي تبرشِم المواد الإعلانية، أو إلى مكاتب العمل اليومي التي تمارس غسل الأموال من خلال سنغافورة وجزر فيرجين البريطانية. نعطيك المال وتعطينا الطابعات، ولكن كل ذلك على الورق وحسب، أما المال فسيودَع في بنك لطيف اتباعًا للنصيحة الشيشانية. شاعت هذه الطريقة لاستغلال المال في التسعينيات، وكانت قانونية تمامًا إلى حد إنها سهّلت الاحتيال بدرجة لا تصدق.

نعلم الآلاف من مثل هذه الحالات حيث لا يوجد أي إجراءات لتنظيم الاقتصاد. مع إغلاق مصانع الآلات، تحتم استيراد الآلات من الصين، وحتى الوقت الذي اتُّخِذ فيه هذا القرار تُركت صناعات كاملة إما من دون الآلات اللازمة لإتمامها، أو من دون أسواق أو من دون الخدمات اللوجيسيتية اللازمة. تدبر السوق أمره وجُني المال بطريقة أو بأخرى، لكن الاقتصاد صار اعتماديًا أكثر فأكثر، وفي هذا الوقت بدأ الخطاب المعادي لأمريكا في الدوائر الحكومية في عهد يلتسن. يمكن للمرء أن يتذكر خطابه المعادي لأمريكا في عام 1998 وإلقاء المظليين الروس في بريشتينا والدور الذي أدته طائرة رئيس الوزراء بريماكوف.

فارقت كل ملامح الاستقلال الاقتصادَ تمامًا، وهذا أيضًا أمر مفهوم؛ فلماذا تُنتج شيئًا خاصًا بك إذا كان بوسعك أن ترتب أمر المؤن وتؤجرها أيضًا؟

في مرحلة ما أدركوا إنه من الممكن أن ينالوا أرباحًا فائقة من بيع الموارد الأساسية. بدؤوا يضعونها في صناديق خاصة تُوزع في كل أنحاء العالم، وإذا بها تدر مصادر دخل ضخمة حتى إنهم بدؤوا ينفقونها على تطوير الإنتاج داخل البلاد.

هكذا ظهرت سيارات «لادا» الجديدة وكذلك طائرة سوخوي سوبرجت 100 التي سنقول عنها في 2001 إنه يستحيل التفكير فيها. صحيح إن 50% من مكونات وتقنيات السيارات والطائرات أجنبية ولكن أولا: حتى وقت قريب جدًا كان هذا هو الحال في العالم كله، مثل شريط موبيوس حيث دُمج في نفسه كاملا. ثانيًا: تتكون الطائرة بنسبة 50% من تقنيات محلية، وهذا أفضل من لا شيء بنسبة 50%.

بعد ذلك حدث ما حدث. وجدنا أنفسنا في وضع يمكننا أن نقول إنه أسوأ من الوضع المظلم في عام 1993 بأحذيته الشتوية التي كانت خارج نطاق الإمكان حتى بدا هذا الوضع القديم جيدًا نسبيًا مقارنة بالوضع الحالي. وسط إحدى نوبات الهلع قلت في نفسي إن كل هذا سوف يمر سريعًا ولن يتكرر. لكن ها هي الشهور تمر، والبلاد تبدو كما لو إنها تغرق في العصر الحجري إلا أن هناك بعض بوادر الحياة تؤدي إلى قدر من التفاؤل الحذر.

تَقرَّر إنتاج طائرة Ту-214. بالطبع هذا لا يعني إنهم سوف يستبدلون في غضون ستة أشهر بأسطول طائرات إير باص وبوينج طائرات محلية الصنع. حتى إذا سارت الأمور على ما يرام، سوف يستغرق الأمر سنوات. ليست هناك مساحة للحركة إلا في الداخل، فلا يمكنك الهروب من نفسك، وطالما إن الشركات الخارجية لن تساعد علينا إذن أن نفعل شيئًا ما هنا.

اتضح إن بالإمكان شراء العملة بسعر معقول، ليس رسميًا بالطبع، ولكن بصورة غير مخيفة حيث تتوفر في كل نقطة تبديل عملة.

لا يزال بالإمكان أن يسافر المرء في عطلاته، فالمتاجر لا تزال مليئة بالبضائع كسابق عهدها، ولا يوجد نقص في الأدوية في الصيدليات، والناس لا يسيرون في الشوارع مرتدين الأسمال.

من المفهوم إننا لم نواجه بعد الصعوبات الرئيسة، وإنها سوف تلوح لنا تدريجيًا. لكن الحقيقة هي إن العالم تغير بدرجة كبيرة ولن يعود إلى سابق عهده. لن يحدث هذا التغيير بين عشية وضحاها، بل عبر أعوام، وإذا لم تعتد على ذلك بعد يلزمك أن تتكيف. يمكننا أن نتساءل مثلا عن الكيفية التي ستتكيف بها إير باص مع حقيقة إن 65% من التيتانيوم يستورد من روسيا، ربما سيلجؤون إلى عملية استيراد عكسية.

لكن أكثر ما يذهلني في هذا الموضوع هو استطلاع الرأي العام. عندما سألوا الناس عما سيفعلونه إذا فقدوا وظائفهم غدًا أجاب 20% من الروس: «لن أفعل شيئًا لبقية حياتي.. لدي ما يكفي من المال».

أهو شعب يتسم بنوع من العمق والاستقلالية، ولا يمكن القضاء عليه، يعيش في مجتمع يبدو كوحدة متراصة ولا يمكن تخويفه؟ أتكون هذه هي الدولة العميقة؟ أتكون سمة ذائبة في الناس ولا يمكن التحكم بها من الأعلى؟ إذا كان الأمر كذلك فلا شيء قطعًا يدعو إلى القلق.

ديمتري سامويلوف صحفي وناقد أدبي روسي