الحرية في بُعدها الحضاري

05 مايو 2024
05 مايو 2024

عندما يتم الحديث عن البعد الحضاري في أي شأن من شؤون الحياة العامة، فإن الفهم يذهب إلى الشمولية، أو العناوين الرئيسية التي تقوم عليها الحضارة الإنسانية، حيث تختفي؛ هنا؛ الازدواجية، أو القياس بمعيارين مختلفين، فالفهم الحضاري لا يقبل التقسيم، وإلا اختزلت عندها المفاهيم، وتراجعت في مستويات الأبعاد الحضارية، إلى الحالة العادية، وهي الحالة الفقيرة الجدباء، المرتهنة للنموذج الشخصي البحت، والمطلق، حيث يضيق المفهوم الحضاري هنا، ويختزل إلى أدنى مفاهيمه، بل يتحرر نهائيًا من الارتقاء إلى مفهومه الحقيقي؛ لأن الحضارة مجموعة من الاستحقاقات، فإن لم تتوفر كلها مجتمعة، فإن النموذج لا يمكن أن يطلق عليه على أنه نموذج حضاري، كما هو الحال عندما يتمثل الشخص مع نفسه ويقنعها على أنه فرد «متحضر» فقط؛ لأنه يلبس الغالي من الملابس، ويستخدم الغالي من الأدوات، ويظهر أمام الآخرين بهيئة احتفالية أقرب إلى الزهو، والخيلاء، بينما لو استثاره أحد ما في أمر ما، قد تتساقط كل هذه الصور التي حمَّلها نفسه، وغدا فردًا فقيرًا مسكينًا لا يملك من أمر نفسه شيئًا إلا ما أحاط به من تلك الصور الاحتفالية المؤقتة، يقول الدكتور أحمد قطران: «نقصد بالحرية المتكاملة تساوي أفراد الأمة، وانعدام التفاوت المستند إلى الجنس أو اللون أو المكان، وخضوع كل شيء في الحياة للمنافسة المتساوية، ففي المجال السِّياسي يجب أن تكون المناصب السياسية محل تنافس ليصل إليها الأصلح بغض النظر عن جنسه أو نسبه أو مكانته الاجتماعية، وفي مجال العمل لكل فرد أن يعمل وينتج دون أن يجد عائقًا يعوقه ما دام يسير وَفْق النِّظام والقانون الذي يجب أن يكون دافعًا للتنافس، ولا يخضع التنافس للمحاباة والقرابة وإنما للكفاءة فقط. فحرية الفكر جزء من الحرية، وحرية التَّدين جزء من الحرية، وحرية العمل جزء من الحرية. فالحرية المتكاملة هي التي تشمل جميع مناحي الحياة سياسة، وفكرًا، واقتصادًا، وكل ما من شأنه أن يصنع حَراكًا في الحياة». بحسب -https://hekmahyemanya.com -.

يرتبط مفهوم الحرية بعدد من المفاهيم المؤسسة للمفهوم الحضاري؛ من ذلك: الاتجاهات الفكرية - القياس عليها ما يؤمن بها أفراد المجتمع ويعبرون عن مواقفهم من خلالها؛ وهي خلاصات تجربة الحياة، وهي التي يعبر عنها؛ غالبا؛ كبار السن من المفكرين، وقادة الرأي - كذلك تأتي المفاهيم الدينية وهي المؤسسة أصلا لمفاهيم الحرية، فالدين الإسلامي خصب بالحديث عن الحرية بكافة مفاهيمها، وجاء أبناؤه معبرين عنها في أقوال كثيرة، ومواقف أكثر، ومن يتتبع النصوص الدينية؛ سواء في القرآن الكريم أو الأحاديث النبوية الشريفة؛ يجد الكم الكبير من ذلك سواء الداعية بصورة مباشرة إلى احترام الذات الإنسانية، أو تلك التي تشير إلى أحقية الإنسان في كثير من شؤون حياته اليومية فيما يملك، وفيما يعطي، وفيما يهب، مع الحرص الكبير على احترام ذاته الإنسانية وإنزالها المنزلة الكريمة التي تعمل على ديمومة بقائه، وتكاثره، واحترام شخصه، وقراراته فيما يود فعله، في كل ما لا يصطدم مع التعاليم الدينية التي تنهى عن الوقوع في مواطن الزلل والخطيئة، كذلك تأتي القيم الاجتماعية السامية لتزيد من تأصيل الكرامة الإنسانية، لتحقيق توازن القيم والكرامة الإنسانية، وهي تدفع بهذه المُثُل السامية منها إلى تعزيزها، واحترامها، والعمل على توظيفها في المناخات الإنسانية والاجتماعية المختلفة، بل يصل الأمر إلى محاكمة من يحاول أن يعكر صفو المجتمع الأنساني بممارسات لا تعبر عن احترام القيم الاجتماعية، وإنزالها المنزلة المباركة، وذلك كله حفاظا على قوة المجتمع الإنساني وهيبته، وتوقير أفراده، ولذلك تمثل مقولة الخليفة عمر بن الخطاب - رضي الله عنه -: «متى استعبدتم الناس، وقد ولدتهم أمهاتهم أحرارًا» النموذج الأمثل لتحقيق العدالة الاجتماعية، وتأصيل منهج الحرية في بعده الاجتماعي. فالاستعباد الذي يشير إليه النص، لن يكون في مجموعة من الأوامر أو النواهي غير المنطقية فقط، بل يشمل ذلك كل ما يمس الكرامة الإنسانية في حياته اليومية المادية والمعنوية؛ بلا استثناء؛ وسواء أكان الفرد ذا قيمة اجتماعية في محيطه، أو غير ذلك، فتكفي فرديته الإنسانية لأن يحظى بكافة الحقوق التي يكفلها القانون له، دون أن يسعى الفرد إلى المطالبة بما له من حقوق، مع الفهم الواسع بأن عليه حقوق تجاه الآخر، على ألا يكون تأدية هذه الحقوق بطريقة استفزازية، تجعل صاحبها يؤديها من غير اطمئنان نفسي لكي يحصل هو -في المقابل- على حقوقه، لا أبدًا؛ وإنما يذهب الفهم إلى الشمولية في أداء الواجب، وفي الحصول على الحقوق، دون إراقة ماء وجه في كلا الحالتين، وبالتالي متى يصل المجتمع بغالبيته الكبيرة إلى هذا الشعور، يكون بذلك المجتمع تأصلت فيه الحرية في بعدها الحضاري، فالحضارة هنا هي المعنى الشامل لكل المثل والقيم الإنسانية التي يجد فيها الفرد -قبل الجماعة- ضالته فيهنأ بما فيها.

يمكن القول إن الحرية في حالتها المجردة، فقيرة المعنى والدلالة، ولذلك فهي خاضعة لكل احتمالات التوظيف، ومن هنا يتباين هذه التوظيف بين الأفراد والمجموعات في التنفيذ، فكلمة «أنا حر» قد تجر وراءها الكثير من التداعيات في حالة تطبيقها، حيث تخضع كثيرًا لحالة صاحبها النفسية؛ فهي لا تستند إلى حاضنة تاريخية؛ وهذا هو الغالب الأعم في التوظيف، ومن هنا يأتي التلاعب بمفهوم الحرية ودلالاتها المادية والمعنوية. والسؤال: متى تكتسب الحرية حمولتها الحقيقية في الفهم والتوظيف؟ والجواب: عندما تكتسب بعدا حضاريا، وهذا البعد الحضاري له استحقاقات كثيرة، منها؛ العمر الزمني المنجز «التأريخ»حيث يأتي التاريخ كأهم ممول وفاعل لمفهوم الحضارة، ومعنى ذلك لا حضارة بلا تاريخ، مع التأكيد أنه لا يمكن صناعة تاريخ لتأسيس حضارة، بمعنى أنه لا بد أن يأتي التاريخ متسلسلًا عبر مراحل الزمن، وهذا التسلسل؛ لا بد أن يكون منطقيًا؛ تتشكل فيه مراحل الحضارة، بكل مقوماتها الإنسانية والمادية، والمعنوية، والمقصود هنا، بالمعنوية هي ذات الفهم الواعي لمعنى الحضارة، وليس إقحامًا أو تجاوزًا لذات المفهوم، وإلا أصبح في مقدور كل تجمع إنساني أن يطلق على نفسه «حضارة» وهذا مما لا يمكن حدوثه، وفق الفهم الواعي للحضارة، وإلا لأصبحت المفاهيم المهمة، ومنها المفهوم الحضاري، معروضة على الأرصفة للبيع، وبالتالي فكل من عنده القدرة المادية أن يتبضع مما هو معروض، وينشئ معرضًا مشاهدًا للجمهور تحت عنوان «حضارة» وهذا لا يمكن استيعابه؛ فضلًا عن قبوله، ومنها المنجز المادي المتنوع والشامل لمجالات الحياة اليومية الذي حقق من خلالها مجموعات الأفراد مختلف الإشباعات المادية والمعنوية، ومنها ذلك الأثر الطيب الذي حظي به الآخر؛ حيث شيوع الأمن والسلام والرخاء، دون أن يكون هذا الأثر حكرًا لمجموعة معينة من الناس، في حيز جغرافي محدد، فالشمولية تقتضي هنا؛ أن يعم الخير والأمان للناس كافة، وإلا لسقط فهم «البعد الحضاري» دون تحقق كل ذلك، وبالتالي فإن أية مجموعة إنسانية تنادي بالحرية؛ متجاوزة هذه الاستحقاقات فهي لا تزال عند مستويات الحرية الأولى، وهو المستوى المجرد الـ«فقير» للدلالة والمعنى للحرية، وهو المستوى الذاهب إلى الانتصار للذات، وللخصوصية فقط، وبالتالي فهي بعيدة عن مفهوم الحرية في بعدها الحضاري، فالدول الاستعمارية -على سبيل المثال- قد تنادي بالحرية؛ وقد تقطر شيئا منها للمجتمعات في بلدانها المحدودة، من خلال نظم وقوانين محدودة أيضًا، فهي بذلك عند مستويات الحرية الأولى «الحالة المجردة» بدليل أنها لن تستطيع أن تفضي ولو بالشيء اليسير هذا في البلدان التي تحتلها وتنتهك فيها حريات البشر، ومعنى ذلك فإن هذه الأنظمة هي أقرب إلى الديكتاتورية والعنصرية؛ منها إلى الحرية الحقيقية والمساواة، فضلا عن وصولها إلى الحرية في بعدها الحضاري.

أختم هنا -بتقييم خاص- لمفهوم البعد الحضاري لحرية الصحافة والإعلام؛ وهو: إن الحرية الصحفية والإعلامية لا يمكن أن تؤسس بعدا حضاريا لمسيرتها الفنية والموضوعية، وذلك لعدة أسباب منها؛ أولا: إنها ترتهن في أدائها عبر سياسة إدارية حسب نهج المؤسسة التي تنتمي إليها، فهي ليست كيان في ذاتها.

ثانيا: إنَّ جل المؤسسات العاملة في المجال الصحفي والإعلامي محكومة بمجموعة من سيطرة النخب (سياسية؛ اقتصادية؛ دينية؛ اجتماعية) وهذه كلها تمارس على المؤسسة الصحافية أو الإعلامية ضغوطًا غير منكورة.

ثالثا: الحرية الصحافية والإعلامية خاضعة لقناعات الموظف، ومجموعة التجاذبات التي تحيط به الخاصة والعامة، وبالتالي فهو ليس حر حتى يتبنى الحرية، ويعلي من سهم ميزتها الحضارية.

أحمد بن سالم الفلاحي كاتب وصحفي عماني