الثمن الذي ندفعه مقابل مجانية وسائل التواصل
بات من البدهيات الحديث عن جوانب التأثير المختلفة لوجود وسائل التواصل في حياتنا، سواء من حيث إثراء مجالات العمل والتعلم والتواصل والترفيه، أو تأثيراتها من النواحي النفسية والاجتماعية والثقافية والأخلاقية والتجارية وغيرها. كما أنه - رغم أهميته - لم يعد خافيا أحد أهم أسباب تزايد استخدامنا لتلك الوسائل وهو التطور التقني المتسارع في جوانب متعددة مثل تطور الأجهزة الذكية وأنظمة تشغيلها وتطبيقات التواصل عليها من جهة، وتطور شبكات الاتصالات - سواء السلكية أو اللاسلكية - من النحاسي إلى الضوئي سلكيا وتعاقب الأجيال إلى الجيل الخامس لاسلكيا، إضافة إلى تطور أساليب وتقنيات وصيغ صناعة المحتوى الموجود عبر تلك الوسائل بما يواكب عنصري تطور الأجهزة والأنظمة والتطبيقات من جهة وتطور الشبكات من جهة أخرى.
ولعل هنالك سببا آخر قد لا ندركه للوهلة الأولى عند التفكر في مدى انتشار وتأثير وسائل التواصل في العالم ككل، وهو حقيقة أن تلك الوسائل تتيح لنا خدماتها مجانا - أو بصياغة أدق دون مقابل مادي - بحيث لا يتطلب التسجيل فيها سوى ملء بعض الخانات البسيطة ببيانات أساسية والموافقة على سياسات الخصوصية التي لا نعيرها أدنى اهتمام. ولكن من أجل فهم أفضل لمدى مجانية تلك الوسائل، يمكن استحضار مقولة لدوجلاس راشكوف - أستاذ نظريات الإعلام والاقتصاديات الرقمية بجامعة مدينة نيويورك - قبل أكثر من عشر سنوات حيث قال: «اسأل نفسك، من الذي يدفع الأموال لمنصة فيس بوك؟ الجواب البدهي أن الزبائن هم من يدفعون، وفي حالة فيس بوك فالزبائن هم الشركات المعلنة. إذن وفي حالة فيس بوك نحن لسنا زبائن، بل المعلنون هم الزبائن ونحن المنتج الذي تبيعه فيس بوك لهم.»
وقد لا يكون هذا المفهوم بجديد على العديد من مستخدمي وسائل التواصل، كما أن ذلك قد لا يشكل بالضرورة إزعاجا للكثير من أولئك المستخدمين انطلاقا من أنه لا بأس من مشاركة بعض البيانات الشخصية مقابل القدرة على الوصول إلى هذا الكم الهائل من المعلومات والمحتوى وامتلاك صوت مسموع لدى العالم دون عناء كبير ودون مقابل مادي، أو اعتقادا بأن البيانات المتعلقة بهم والمحتوى الذي يشاركونه ليس سرا من أسرار الدول، لذا قد لا يشكل تهديدا حقيقيا إذا اطلعت الشركات عليه أو شاركته مع جهات أخرى لأغراض غير تجارية، أو أنه لا بأس بقليل من الإعلانات التي يمكن تجاهلها وتركيز الانتباه على المحتوى المرغوب.
وبالحديث عن الانتباه، هنالك مصطلح يتمحور حول هذه الجزئية فيما يتعلق بطبيعة عمل وسائل التواصل وهو «الاقتصاد القائم على الانتباه Attention Economy» ولعل اللغة الإنجليزية كانت أكثر تعبيرا عن هذا الجانب حتى قبل ظهور المصطلح ذاته - ولو عن طريق المصادفة - باستخدام عبارة Paying Attention للتعبير عن «إعارة الانتباه» (تترجم حرفيا: الدفع بالانتباه). ويرتكز مصطلح الاقتصاد القائم على الانتباه - الذي أطلقه لأول مرة هيربرت سايمون عالم السياسة الأمريكي الحائز على جائزة نوبل للاقتصاد - على اعتبار أن انتباه الإنسان هو بمثابة سلعة نادرة يتطلب الحصول عليها مقابلا ماديا. ويمكن القول إن وسائل التواصل تؤدي دور الوسيط بين الجهات الراغبة في الحصول على انتباه الأشخاص من جهة، والسلعة النادرة ذاتها - انتباه الأشخاص - من جهة أخرى، وتقوم بناء على ذلك بوضع التسعيرات بناء على مدى وفرة أو ندرة تلك السلعة وفق ممارسات المزايدة في المنتجات الإعلانية التي تقدمها وسائل التواصل. ومن أجل استدامة تلك العملية وضمان وجود «سلعة الانتباه» على تلك المنصات فإنها تعمل على توظيف كل من شأنه بقاء مستخدميها لأطول وقت ممكن في التصفح والتفاعل والمشاركة ويتمثل ذلك في وجود المنشورات المقترحة والصفحات المقترحة وتسخير تقنيات التصفح اللانهائي أو ما يعرف بالتصفح المميت Doomscrolling الذي يضمن بقاء المستخدمين لأوقات طويلة جدا قد تصل للساعات في تطبيق واحد.
إن من التكاليف الأخرى التي تترتب على استخدامنا لوسائل التواصل تصوراتنا الشخصية عن الحياة، ذلك أن هذه الوسائل تعمل بمنهجيات تروج للمحتوى الذي يعكس الأحداث غير المألوفة للجمهور بتطرف أحيانا، سواء التطرف في السعادة أو التطرف في السلبية أو التطرف في الجمال أو التطرف في الكوميديا، وهي تدفع بالأشخاص والمجتمعات في غالب الأحيان إلى إظهار نسخ محسنة من حيواتهم الشخصية لا تظهر الجوانب التي يرغبون في إظهارها لغيرهم وبذلك تكون الصورة المنقولة التي تترسخ في أذهان المتلقين النسخة المحسنة وليست الواقعية. كما تؤثر طبيعة المحتوى المنتشر - أو الرائج أحيانا كثيرة - في الجوانب النفسية للمتلقين وبالتحديد تلك المرتبطة بالامتعاض من الواقع أو التركيز على الجوانب السلبية للموضوعات، وهي التي ينتج عنها تلقائيا انتشار موجات أكبر من الامتعاض والسلبية بين الأشخاص والمجتمعات.
وبعيدا عن تصوراتنا الشخصية تجاه الحياة، وفيما يتعلق بالحياة الواقعية فإن أبسط ما يمكن الخلوص إليه بالنظر إلى الواقع الذي نعيشه هو أن تلك الوسائل باتت تأخذ الكثير من الوقت الذي يمكن أن يخصص لتعزيز الإنتاجية أو للتعلم أو لتعزيز الصلات مع الأحباء والأصدقاء؛ لذا فإنه يمكن النظر لذلك الجانب من التأثير على أن تمتعنا بالقدرة على الوصول إلى المعلومات والمحتوى عبر تلك الوسائل قد يكون ثمنه الوقت الذي قد لا يمكن استرجاعه، ناهيك عن بعض مظاهر الإدمان التي تجعل الأجهزة الذكية أول ما ننظر إليه أول الصباح وآخر ما نطالعه قبل النوم، وأن التنبيهات الواردة إلى أجهزتنا تتمتع بالأولوية فوق المحيط الذي تأتينا فيه وبغض النظر عن مدى أهمية ما نحن مقبلون على فعله أصلا في ذلك المحيط.
وبالحديث عن مظاهر الإدمان فإنه تجدر الإشارة إلى ما طرحه مظفر الصارمي - عبقري التواصل والعلوم المرتبطة به ومؤلف كتاب علامات السيروتونين - من فرضية أن إدماننا لوسائل التواصل مرتبط بحقيقة أنها تقدم لنا «الدوبامين الرخيص» عبر تقديم المتعة اللحظية، وبأن زيادة انغماسنا في الممارسات المرتبطة بتقديم الدوبامين الرخيص - استخدام وسائل التواصل في سياق حديثنا هنا - ترفع مستوى عتبة الدوبامين مما يجعل أدمغتنا أكثر إلحاحا على استخدام تلك الوسائل من أجل الحصول على الجرعة المرغوبة. وسواء أكانت نظرتنا تجاه الكلفة التي نتحملها مقابل «مجانية» وسائل التواصل بسيطة أم معقدة، فإن ما يجب علينا فعله التقليل من تلك الكلفة قدر الإمكان، وتوجيه مورد الوقت نحو مزيد من الإنتاجية، وسلعة الانتباه نحو من يستحقونه دون مقابل، والسعي نحو جرعة الدوبامين التي تتولد عن الشعور بالمكافأة نتيجة الإنجاز الحقيقي مقابل الجهد الكبير الذي نبذله بعزم وإصرار.
