التنسيق العماني المصري.. ضرورة عربية

22 مايو 2023
22 مايو 2023

في الوقت الذي استطاع فيه القادة العرب اختتام قمتهم الثانية والثلاثين التي عقدت في جدة بقيادة المملكة العربية السعودية الشقيقة، وهي الأولى التي التأم فيها الشمل العربي في إطار جامعة الدول العربية منذ عام 2011 وذلك بأكبر قدر من الرغبة الواضحة والمتبادلة في استعادة التضامن بين الأشقاء، والتوجه الصادق نحو تجاوز مشكلات ورواسب وأدران السنوات العجاف السابقة، فإن مما له دلالة عميقة، وفأل طيب أيضا، أن يكون الحدث العربي التالي لها - قمة جدة - هو القمة العمانية المصرية التي تمثلت في الزيارة التي قام بها حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم لأخيه فخامة الرئيس عبد الفتاح السيسي رئيس جمهورية مصر العربية الشقيقة، خاصة في ظل ما هو معروف ومستقر في الخبرة السياسية والدبلوماسية العربية من أن مصر وسلطنة عمان تحملان دوما الخير في كل تحركاتهما المشتركة لصالحهما ولصالح الدول والشعوب العربية الشقيقة من حولهما. وفي هذا الإطار يمكن الإشارة إلى عدد من الجوانب، لعل من أهمها ما يلي:

أولا، إنه إذا كانت قمة جدة قد أكدت أهمية وضرورة العمل بكل السبل الممكنة لإعادة وإحياء وتنشيط سبل العمل العربي المشترك ومؤسساته على المستويين الفردي والجماعي، فإن سلطنة عمان وجمهورية مصر العربية الشقيقة هما من أكثر الدول العربية إيمانا والتقاء ويقينا بأهمية وضرورة العمل والتنسيق بين الأشقاء على المستويات الثنائية والمتعددة الأطراف والجماعية لتحقيق المصالح المشتركة والجماعية دوما وتحت كل الظروف وذلك على مدى الأعوام الخمسين الماضية، أي منذ أوائل سبعينيات القرن الماضي، حيث توطدت العلاقات على مستوى القمة وفي إطار من التقدير الشخصي العميق والمتبادل وتواصلت العلاقات باتساعها وزخمها بعد تولي جلالة السلطان هيثم بن طارق مقاليد الحكم في يناير عام 2020 وقيام فخامة الرئيس عبدالفتاح السيسي بزيارة مسقط في عام 2021 وتأتي زيارة جلالة السلطان المعظم للقاهرة لتعطي دفعة كبيرة، عمقا واتساعا ليس فقط للعلاقات الثنائية العمانية المصرية، ولكن أيضا لكل جهد خير ومسعى صادق وحميد يسعى لإيجاد نقاط التقاء أعمق وأكبر مساحة من التوافق بين الأشقاء لحل المشكلات والخلافات التي أرهقت الدول والشعوب العربية على مدى السنوات الأخيرة. وبينما كان للبعد الشخصي في العلاقة بين السلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ وبين الرئيس مبارك ـ رحمه الله ـ دورها الإيجابي المؤثر في العلاقة على مستوى القيادة، فإن الوضوح والصراحة اللذين اتسمت بهما السياسة العمانية والقدرة على إعلان الموقف العماني علنا، بغض النظر عن مدى المعارضة التي قد يواجهها أحيانا، قد عمقت في الحقيقة التقارب العماني المصري الذي استند إلى إيمان عميق ومشترك بالسلام وبالحاجة إلى حل الخلافات بالطرق السلمية وعلى أساس من مبادئ العدل والقانون الدولي وفق قرارات الأمم المتحدة واحترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للدول الأخرى وتلك مساحة التقاء كبيرة اتسعت كثيرا بين البلدين في سبعينيات وثمانينيات القرن الماضي وحتى الآن. ولعل ما يؤكد استمرار هذا التأثير وامتداده في العلاقة على مستوى ما يجمع ويربط بين جلالة السلطان هيثم بن طارق وأخيه فخامة الرئيس المصري أن قمة هذا الأسبوع هي القمة الثانية بين القائدين في مدى لا يتجاوز العامين بكثير، وهو ما يعكس تقديرا رفيع المستوى من جانب كل منهما لقيمة وأهمية وضرورة التنسيق الأكبر وتطوير التعاون بين البلدين في جميع المجالات، خاصة في الظروف التي تمر بها المنطقة، والآفاق التي تنفتح عليها في الحاضر والمستقبل.

ثانيا، إنه من المؤكد أن التأييد العماني الشجاع والصريح والثابت من جانب سلطنة عمان والسلطان قابوس ـ طيب الله ثراه ـ لحق مصر في اتخاذ ما يلزم لاسترجاع أراضيها المحتلة - وهو ما عارضه الأشقاء لسنوات قبل أن يصلوا في النهاية إلى الموقف العماني الثابت والبعيد النظر- كان له أثره العميق في العلاقات العمانية المصرية في العقود الأخيرة، ليس باعتباره موقف تأييد سياسيا لمصر من جانب سلطنة عمان وقيادتها ولكن باعتباره موقف دعم ومساندة لمصر على أساس أخلاقي وأخوي، سياسي وعملي أيضا وهو ما عبر عنه السلطان الراحل ـ طيب الله ثراه ـ في أكثر من قمة عربية وفي أكثر من حديث ولقاء صحفي ومن منطلق قناعة عميقة بالسلام وبحق مصر الأصيل والسيادي في استعادة أراضيها المحتلة، وقد عرض هذا الموقف العماني الشجاع مسقط لانتقادات لم تعرها أهمية كعادتها. جدير بالذكر أن هذا الموقف العماني الذي جاء مجردا من أية مصالح في ذلك الوقت لم يعمق فقط العلاقات الثنائية ويدعم التفاهم والثقة المتبادلة على مستوى القيادة بأكثر بكثير مما كانت عليه، ولكن الأكثر أهمية أنه أوجد بعدا شعبيا وجماهيريا مصريا مقدرا للموقف العماني وداعما لترسيخ وتعميق العلاقة مع سلطنة عمان، وكان ولا يزال، يكفي أن يقول المواطن العماني: إنه من سلطنة عمان التي تحظى بتقدير عميق على مستوى المواطن والحكومة وكل فئات الشعب المصري وهو ما انعكس من جانب آخر على مستوى أداء القوى العاملة المصرية التي عملت ولا تزال تعمل في السلطنة عبر أجيال متعاقبة وتحظى بتقدير رفيع من جانب القيادة والشعب العماني، ولعل ما يزيد من قيمة هذا البعد أن الشعبين المصري والعماني يشتركان في ماضيهما الحضاري العميق وفي تقدير كل منهما للآخر، خاصة وأن العلاقات بين الشعبين عميقة وممتدة منذ ما قبل التاريخ، كما أن اهتماما مصريا واتصالات عمانية مصرية جرت في منتصف القرن التاسع عشر وفي تسعينياته وثقتها صحيفة الأهرام المصرية في ذلك الوقت وعبر متابعات ذات بعد سياسي أكثر منه صحفي أيضا، وهي كلها بمثابة جذور وروافد لعلاقات عميقة تنمو وتزدهر بقوة وثبات في الحاضر والمستقبل برعاية حضرة صاحب الجلالة السلطان هيثم بن طارق وأخيه فخامة الرئيس السيسي.

ثالثا، إنه إذا كانت العلاقات العمانية المصرية تتمتع بكل مقومات القدرة على التطور والانطلاق، رسميا وشعبيا، كما تتوفر لها الإرادة السياسية القوية لفتح كل الآفاق أمام مزيد من التطور في مختلف المجالات التجارية والاقتصادية والاستثمارية وفي مجالات المشروعات العملاقة، ومنها الهيدروجين الأخضر، والتعاون للاستفادة من الموارد والإمكانات المتاحة للبلدين في الثروات المعدنية والزراعية والمنتجات الصناعية والطاقة المتجددة وغيرها، فإن الكرة توجد في الواقع في ملعب الحكومتين العمانية والمصرية وخاصة اللجنة العمانية المصرية المشتركة ومجلس رجال الأعمال المصري المشترك وتوفر المساندة الكبيرة من جانب القيادتين الحكيمتين والجهود النشطة لسفيري البلدين فرصا حقيقية يمكن الاستفادة منها عبر الاتفاقيات ومذكرات التفاهم التي تم التوصل إليها خلال الزيارة الناجحة لجلالة السلطان المعظم للقاهرة، وعلى الصعيد العربي والإقليمي فإنه في حين أكدت القمة الثانية والثلاثون التي عقدت في السعودية على الحاجة إلى لمّ الشمل العربي وإلى حل الخلافات العربية بالحوار البناء وبما يحافظ على سيادة الدول العربية وعلى أمنها وسلامة أراضيها، فإن العمل والتنسيق الأوسع والأعمق والتعاون بين سلطنة عمان وجمهورية مصر العربية هو أكثر ما تحتاجه المنطقة الآن من أجل الدفع نحو حل الخلافات العربية، وذلك انطلاقا من أن البلدين الشقيقين متفقان تماما على الأسس والمبادئ التي ينبغي أن تقوم عليها العلاقات العربية والتي يجب أن تنطلق منها وفي إطارها مختلف الجهود لحل الخلافات العربية، وبدعم من مجلس التعاون لدول الخليج العربية وجامعة الدول العربية أيضا، يضاف إلى ذلك أن ما يعزز نجاح سلطنة عمان ومصر في جهودهما ومساعيهما الحميدة أنهما يرحبان معا بالتعاون المخلص معهما من جانب أي من الأشقاء العرب وعلى أي مستوى وأنهما يقدمان المصلحة الجماعية العربية على أية مصلحة أخرى ومن شأن ذلك أن يفتح المجال واسعا أمام تطوير التجارة والاستثمار بين البلدين وتشجيع رجال الأعمال في البلدين للقيام بدور أكبر لخدمة المصالح المشتركة والمتبادلة من ناحية، وأن تتيح الفرص للسير على طريق الحل في اليمن وسوريا والسودان وليبيا، فضلا عن تطوير آليات ومؤسسات العمل العربي المشترك لتتجاوب مع تطلعات الدول والشعوب العربية على النحو المأمول.