التعليم عن بعد.. التحديات والحلول

20 أبريل 2024
20 أبريل 2024

أعادتنا الأنواء المناخية وحوادثها المؤسفة التي حلّت -الأسبوع المنصرم- في بعض محافظات سلطنة عُمان إلى فتح ملف التعليم عن بعد وأهميته؛ إذ سبق أن استدعت الظروف الاستثنائية لوباء كورونا الذي عصف بالعالم أجمع قبل سنوات قليلة إلى تسخير التقنيات الرقمية لأجل تطبيق العمل والتعليم عن بعد، واستطاعت بعض الدول والمجتمعات والمؤسسات التأقلم مع ظروف العمل والتعليم الجديدة وتقبلها رغم التحديات التي ترافق التغييرات غير المألوفة، وكانت سلطنة عُمان من ضمن تلك الدول التي أقبلت على تبنّي منظومة العمل والتعليم عن بعد عبر وسائل التقنية المتعددة ومنصاتها، وأثمرت التجربة -التي امتدت إلى ما يقرب عامين أثناء فترة الوباء- في كثير من مفاصلها النجاح رغم وجود بعض التحديات التي نعتبرها مخاضا يعتري أيّ مجتمع مع عمليات التغيير، وكانت عملية التغيير حينها بمثابة الانتقال من المجتمع الصناعي التقليدي إلى مجتمع رقمي أكثر توأمة مع متطلبات الصناعة والتعليم في ظل المرونة التي تتوافق مع تقليل تكاليف التشغيل والإبقاء على الجودة، وحاولت كثير من المؤسسات الحكومية والخاصة أن تتبنى بعض هذه الممارسات الرقمية حتى بعد انخفاض وتيرة الوباء وتقلصه بناءً على النتائج المثمرة التي أُثبتَ تحققها بعد تجربة واضحة المعالم لممارسات العمل والتعليم عن بعد.

نحاول في هذا المقال أن نركّز على ملف التعليم عن بعد الذي تأتي أهميته مع كلّ ظرف استثنائي مثل الأنواء المناخية والأوبئة والظروف لضمان عدم توقف مسيرة التعليم، ولا يتأتى ذلك إلا بصناعة الوعي الرقمي وتسخير الجهود الرقمية وأدواتها في ترجمة الممارسات الرقمية واستمرارها؛ لتكون واقعا في قطاع التعليم بمستوياته المدرسية والجامعية.

مع بداية الانتقال إلى التعليم الرقمي المتمثل في التعليم عن بعد في سلطنة عُمان سواء عبر التطبيق الجزئي أو الشامل حدث أن انقسم المجتمع بين مؤيد ومعارض؛ إذ نجد من أيّد هذا التحول نظرا للضرورة التي فرضها وباء كورونا للإبقاء على التعليم وعدم توقفه، ونجد من عارض هذا المنحى بدعوى عدم الجاهزية من قبل بعض أفراد المجتمع الذي لم يتهيأ للتحول الرقمي وممارساته؛ فكان هذا التحول من التعليم التقليدي إلى التعليم الرقمي بمثابة التحدي بسبب عدم كفاية المهارات الرقمية لدى بعض الهيئات التدريسية والطلبة وأولياء الأمور، وضعف الأدوات الرقمية المساعدة ونقصها مثل شبكات الإنترنت والحواسيب، وبذلت الحكومة جهدها في سبيل تجاوز كثير من هذه التحديات عبر الدعم التقني لأسر الضمان الاجتماعي والدخل المحدود، وكذلك حثّ شركات الاتصالات على توسيع رقعة شبكات الإنترنت والاتصال وتقويتها، وأثمرت كثير من هذه الجهود في تجاوز بعض هذه التحديات، وإن كان لا يزال بعضٌ منها يشكل عائقا لتحقيق التعليم الرقمي المستدام الواسع الذي يعدّ جزءا من منظومة التحول الرقمي المتمثلة في «رؤية عُمان 2040 « التي تسعى حكومة سلطنة عُمان إلى تحقيقها بجانب التحولات الرقمية الأخرى لجميع القطاعات.

يتضح من السرد السابق أن التحديات التي تواجه مسيرة التعليم عن بعد تكمن أولا في ضعف الوعي المجتمعي بالتحول الرقمي وأدواته وأهميته الذي فاقمه الانتشار المحدود للأنظمة الرقمية -مثل أجهزة الحواسيب- والأنظمة المساعدة لها مثل شبكات الإنترنت والاتصالات؛ حيث إن بعض المناطق خصوصا ذات الجغرافيا الصعبة مثل المناطق الجبلية تفتقد لشبكة الإنترنت والاتصالات بشكل كلّي أو جزئي، ويشمل ذلك المنازل والمدارس. بجانب هذه التحديات الرئيسة، ثمّة تحديات تتعلق بالمنصات التعليمية خصوصا التي تخص التعليم المدرسي وتفتقد بعض المَيزَات المهمة مثل التسجيل التلقائي لحضور الطلاب وحصرهم دون الحاجة للطرق التقليدية تجنبا للخطأ وضمانا لجودة التعليم، وغياب نظام التقويم الرقمي الذي يمكّن المنصة من القيام بالتقويم لقياس أداء الطلبة بدل الطرق التقليدية التي بغيابها أفقدت التعليم فعاليته المعرفية، وثمّة تحديات تتعلق بطبيعة بعض المناهج التعليمية وأساليب تعليمها؛ إذ واجهت كثير من المناهج التعليمية ذات الطابع العملي سواء المدرسية أو الجامعية صعوبة في التأقلم مع التعليم الرقمي الذي يصعب عليه تحقيق المستوى التعليمي المناسب رغم بعض الجهود الفردية التي تبذلها طائفة من المعلمين والمعلمات في تذليل هذه الصعاب بالبحث عن مختبرات رقمية تحاكي واقع المختبرات العلمية وتقديمها للطلبة؛ ولهذا وُجّهت بعضُ المناهج العملية -خصوصا الجامعية التي تتطلب التعليم العملي في المختبرات والورش- إلى التعطيل المؤقت لحين العودة إلى نظام التعليم التقليدي، ما أفقد التعليم شيئا من عناصره المهمة؛ ليفتح الدعوة إلى الاستثمار في دعم المنصات التعليمية الرقمية وربطها بمختبرات افتراضية يمكنها أن تحاكي الواقع، والخيارات الرقمية في هذا الشأن متاحة وكثيرة.

بجانب ما عرضناه من تحديات وما صاحبها من جهود بذلتها الحكومة وما زالت تبذلها بشكل عام نلمس أيضا جهود الوزارات المعنية بشكل مباشر في ملف التعليم مثل وزارة التربية والتعليم ووزارة التعليم العالي والبحث العلمي والابتكار اللتين بذلتا جهدا في تنمية الوعي الرقمي في محيط مؤسساتهما التعليمية عبر الدفع بتدريب الهيئات التدريسية وتعريفها بالمنصات التعليمية وسبل تفعيلها في عملية التعليم عن بعد، إلا أن هذه المهارات لم تصلْ بشكل كافٍ إلى الجميع، وكذلك العنصر الآخر في هذه العملية هم فئة الطلبة رغم الإرشادات التي أُوصلت إلى الطلبة لتوجيههم إلى آلية استعمال المنصات التعليمية. فيما يتعلق بتحدي نقص الأجهزة الحاسوبية، لا يمكن أن نحمّل هذه المسؤولية بشكل كامل أولياء الأمور؛ إذ إن عملية التحول الرقمي في قطاع التعليم -الذي يشمل تفعيل التعليم عن بعد- مطلب لا بدّ من تطبيقه كونه عنصرًا من عناصر المجتمع الرقمي؛ وبالتالي تكون هذه الأدوات التقنية الأساسية جزءا من المستحقات اللازم توفّرها لأفراد المجتمع حالها حال الاحتياجات الأساسية اللازمة في عملية التعليم المألوفة مثل الكتب وأجهزة المختبرات، وتعتبر -أجهزة الحاسوب- أداة رئيسة في تفعيل مشروع رقمنة المناهج التي تعمل عليه بعض المؤسسات الحكومية المعنية.

أثبتت تجارب الدول والأمم التي قطعت شوطا كبيرا في عملية التحول الرقمي أن آلية تحقق هذه الجهود وتوفير أدواتها الرقمية لا تكتمل دون الشراكة بين القطاع الحكومي والقطاع الخاص؛ إذ أثبتت التجارب نجاح هذه الشراكة عبر مساهمة القطاع الخاص في المشاركة المجتمعية ورفد التنمية المستدامة التي تشمل التحول الرقمي ومنه قطاع التعليم، مما يعود بالنفع عاجلا أو آجلا على الجميع، بما في ذلك مؤسسات القطاع الخاص نفسها التي سينعكس دورها في دعم التعليم والبحث العلمي بتنميتها لخبرات محلية، ومضاعفتها للوعي المجتمعي بشكل عام. من المهم كذلك أن تُمنحَ الممارسات الرقمية مثل التعليم عن بعد عنصرَ الاستمرارية عبر تخصيص يوم أو يومين في الأسبوع لتكون بمثابة الفرصة السانحة لتحويل طموحات التحول الرقمي إلى تطبيق واقعي مستمر واعتياده واعتياد أنظمته بدل أن تضيق بالفرص التي تقتضيها الظروف والضرورات؛ إذ من المؤسف أن تنسف كل الجهود والأموال التي بذُلت وأُنفقت في مشروعات التعلم عن بعد؛ فتتراجع مسيرة مشروعات التحول الرقمي كما حصل بعد انحسار وباء كورونا.

د. معمر بن علي التوبي أكاديمي وباحث عُماني