حرية الصحافة 2024

04 مايو 2024
04 مايو 2024

يحتفل العالم في الثالث من مايو من كل عام بـ (اليوم العالمي لحرية الصحافة)، وهو احتفال يجعل من هذه الحرية أساسا مهنيا للصناعة الصحفية، انطلاقا من أهميتها في الوصول إلى الحقائق والكشف عن الواقع الفعلي وما يحدث على المستويات المحلية والعالمية، بُغية مناقشته وتحليله وإظهاره إلى الرأي العام دونما تظليل أو لبس أو تحريف، ولهذا كان هذا اليوم بمثابة التذكير المستمر بأحقية تلك الحرية باعتبارها واحدة من مبادئ حقوق الإنسان والتعبير عن رأيه وعن ذاتيته.

فمنذ أن تم تحديد هذا اليوم في المؤتمر الذي عقدته اليونسكو في ويندهوك في العام 1991 في اليوم نفسه لإعلان ويندهوك لـ (تطوير صحافة حُرَّة ومستقلِّة وتعدديَّة)، أصبح رمزا لذلك الاحتفال السنوي، الذي يقوم على ترسيخ المبادئ الأساسية والأخلاقيات التي تقوم عليها حرية الصحافة، وهي فرصة سانحة لاحتفال الصحفيين بإنجازاتهم وما يمكن أن يقدموه في سبيل تعزيز تلك الإنجازات ضمن مبادئ الحُرية وتقدير الأخلاقيات التي تقوم عليها ضمن المستوى الذي تمنحه لهم السياسات والتشريعات التي تسنها دولهم.

إن الاحتفاء باليوم العالمي لحُرية الصحافة يمثِّل أهمية ليس فقط من أجل تعزيز تلك الحُرية أو التذكير بتضحيات الصحفيين، والمخاطر السياسية التي قد يواجهها العديد منهم، بل أيضا لمناقشة التحديات العامة التي تمثِّل اليوم توجهات جديدة ومتغيرات قد تُدخل الصناعة الصحفية في منعطفات وتحولات شديدة الحساسية على المستوى المهني؛ منها التحديات الرقمية والتحول التكنولوجي الذي يفرض الكثير من القيود والرقابة من ناحية، والانفلات والجرائم الإلكترونية والعنف من ناحية أخرى، إضافة إلى انتشار الأخبار المظللة والخطابات المضادة التي تجعل من العمل الصحفي المهني أكثر صعوبة خاصة في ظل تطورات الذكاء الاصطناعي، وتدفق المعلومات والبيانات المغلوطة أو حتى الصور المفبركة التي تؤججها خطابات الكراهية.

ولهذا فإن الصناعة الصحفية اليوم تحتاج إلى مناقشة تلك التحديات من أجل الوصول إلى حلول ومقترحات تُسهم في دعم ممارسة النشاط الصحفي وحرية إبداء الآراء وتقديم خطابات متوازنة تنطلق من الحقائق ومعالجة التحديات وتخطيها بإبداع وابتكار أفضل الحلول، إضافة إلى الاستفادة القصوى من الانفتاح التقني والذكاء الاصطناعي والأخذ بيد الصحفيين وتدريبهم من أجل الارتقاء بمستوياتهم المعرفية والتقنية، وتعزيز مستوى مشاركتهم الفاعلة مع الأحداث المحلية والعالمية بما يضمن حُرية الصحافة المسؤولة والمعزِّزة.

واحتفاءً باليوم العالمي لحُرية الصحافة نشرت مؤسسة مراسلون بلا حدود (التصنيف العالمي لحرية الصحافة 2024)، الذي ركَّز على (المؤشر السياسي) الذي يُعد من بين أهم المؤشرات الخمسة (السياسي، والاقتصادي، والتشريعي، والاجتماعي، والأمني) التي تقوم عليها منهجية تقييم البلدان في هذا التصنيف؛ وذلك لما ظهر خلال التقييم من تراجع لافت في هذا المؤشر حيث انخفض إلى (7.6) نقاط، الأمر الذي كشف الضغوطات التي يواجهها الصحفيون خاصة في تلك البلدان التي تعاني الحروب والنزاعات السياسية، إذ (يشهد العالم غيابا واضحا للإرادة السياسية من جانب المجتمع الدولي لإنقاذ المبادئ المتعلقة بحماية الصحفيين) – حسب تقرير التصنيف –، من أبرزها الحرب على غزة من قبل الكيان الإسرائيلي، إذ اتَّسم بعدد (قياسي) من الانتهاكات ضد الصحفيين ووسائل الإعلام من بداية تلك الحرب في أكتوبر 2023؛ حيث (قتل الجيش الإسرائيلي أكثر من 100 صحفي فلسطيني، علما بأن 22 منهم على الأقل لقوا حتفهم أثناء قيامهم بعملهم)، وبسبب تلك الانتهاكات التي اقترفتها إسرائيل جاءت فلسطين في المرتبة (157) في التصنيف على مستوى أمن الصحفيين وسلامتهم.

ولذلك فإن التصنيف يجعل من التحديات السياسية وما قد يمر به الصحفيون في العالم من مخاطر جراء الحروب والنزاعات الجيوسياسية التي تجر الصحافة إلى منعطفات أيديولوجية، والانتخابات والأحزاب السياسية التي يشوبها التحريض والتهديد وتضييق الخناق على حرية الصحافة، وغير ذلك من التحديات التي تفاقم من تلك التحديات، والتي تجعل من حُرية الصحافة وسلامة الصحفيين أمرا في غاية الصعوبة في الكثير من دول العالم.

ففي التصنيف العالمي لحرية الصحافة 2024 جاءت النرويج في المرتبة الأولى، تليها الدنمارك ثم السويد، فهولندا وبعدها فنلندا في المرتبة الخامسة، وقد اتسم تصنيف دول (المغرب العربي والشرق الأوسط) بتقهقر مستوى المؤشر السياسي نتيجة لما يحصل في فلسطين، وما تقوم به إسرائيل من (خنق المعلومات المتدفقة من القطاع المحاصر، بينما أصبحت المعلومات المضللة جزءا من منظومتها)، فيما تقدمت دولة قطر في جدول الترتيب، وقد قفزت سلطنة عُمان 18 مركزا لتكون في المرتبة (137) بمجموع 42.52.

وعلى الرغم من الصعود الذي شهدته عُمان في التصنيف في المؤشرات جميعها، إلاَّ أن التقرير الخاص بالدولة لم يكن قادرا على كشف ما تمر به من متغيرات وانفتاح في مستوى حرية الصحافة وما تشهده من اتساع في مستوى حرية التعبير عن الرأي في الصحافة بشكل عام؛ فلم يستطع التصنيف استيعاب خصوصية الهُوية الدينية والأخلاقية والمجتمعية للدولة، كما اعتمد على بيانات قديمة ما بين (2016-2021) في تقييم (المشهد الإعلامي)، الأمر الذي لم يكن على قدر واف من الموضوعية والإنصاف، ناهيك عن أن هذه البيانات والعبارات نفسها قد وردت في تقرير التصنيف للعام الفائت!

إن قدرة هذه التقارير والتصنيفات على متابعة التطورات لحرية الصحافة على مستوى بلدان العالم، قد تشوبها العديد من الإشكالات والتحديات؛ إذ لا يمكن حساب تلك التطورات وفق ميزان واحد دون النظر إلى خصوصية كل دولة أو حتى كل إقليم، الأمر الذي قد يوقعها في الكثير من التناقضات أو عدم الموضوعية، فمع أهميتها بوصفها إحدى أدوات التقييم والتطوير إلاَّ أن موضوعيتها وصدقها يجب أن ينبني وفق معطيات سنوية وحديثة وقابلة للقياس، آخذة في الاعتبار تلك الخصوصيات الاجتماعية والدينية التي تتميَّز بها بلدان العالم.

وعلى الرغم من ذلك فإن التصنيف يمثِّل مؤشرا مهما باعتباره تقييما عاما يمكن الإفادة منه في تطوير العمل الصُحفي وبناء منظومة إعلامية أكثر حُرية وانفتاحا، وقدرة على مواكبة المتغيرات المتجددة والمتسارعة خاصة على المستوى التقني؛ فالمشهد الإعلامي في عُمان يتَّصف بالكثير من المميزات على مستوى حُرية التعبير، وحُرية الصحافة المتَّزنة التي تجعل من الكتابة الصُحفية والإعلام بشكل خاص قطاعا تنمويا قادرا على إظهار التنوُّع والتعدد بطريقة موضوعية تتَّسم بالمصداقية، إلاَّ أنه ومع انفتاح العالم الرقمي وتدفق المعلومات والبيانات وانتشار آفاق المعالجات التقنية لبرامج الذكاء الاصطناعي، فإن تحقيق مستوى أعلى من الحرية الصحفية، وتيسير الوصول إلى المعلومات وضمانه، سيكون له الأثر الفاعل في تعزيز دور الصحافة والإعلام في البناء التنموي في كافة القطاعات.

إن حُرية الصحافة والانفتاح والتعدد الإعلامي يمثِّل قوة تنموية داعمة لكافة القطاعات؛ ولهذا فإن تطويره وبناءه باعتباره صناعة يُعد من الأولويات التي تتأسَّس عليها التنمية الوطنية، الأمر الذي يقتضي أهمية تمكين الصحفيين وتدريبهم وتقديم الدعم الكامل لهم للقيام بعملهم المهني، إضافة إلى إيجاد سياسات وتشريعات تواكب التطورات المتسارعة في المنظومة الإعلامية بما يُعزِّز دور الإعلام ويمكِّنه من القيام بدوره الإعلامي الرائد.

فحُرية الصحافة وحُرية التعبير عن الرأي في عُمان من المكتسبات التي علينا المحافظة عليها والبناء على ما تم إنجازه وتطويره خدمة لوطننا الغالي وإعلاءً لمسيرته التنموية حتى يكون (في مصاف الدول المتقدمة).

عائشة الدرمكية باحثة متخصصة في مجال السيميائيات وعضوة مجلس الدولة