التضخم .. المخاطر الاجتماعية
تبدو قضية التضخم كـ«رحى الدائرة» الذي تتم العودة إليهِ بعد فراغ الحديث من نقاش التجاذبات السياسية والاقتصادية، ويتم التعامل معه كما لو كان منطقة مبهمة خارج عن نطاق التحكم البشري، وهكذا هو حال «مجتمع المخاطر العالمي» كما سماه عالم الاجتماع الألماني أولريش بيك.
يصطنع المخاطر بفعل المخاطرة ثم لا يستطيع السيطرة عليها رغم المُكنة العلمية والتكنولوجية ومراكمة الخبرات والخيرات التي يولّدها. فتتخلق من خلال تلك المخاطرة أنماطًا جديدة من عدم التكافؤ العالمي، إلا أن حسنة مجتمع المخاطر العالمي كما يراها بيك أنه يتيح فرص تصرفٍ وفعل جديدة أمام الدول والمجتمعات.
تبرز تداعيات التضخم كونه يصنف كأحد أشكال «المخاطر الاجتماعية»، ويعنى بذلك أن مستويات التأثير تطال جميع الفئات/ الطبقات الاجتماعية وإن كان بأشكالٍ متفاوتة، كما أنه قد تؤثر في الآجال المتوسطة - البعيدة على طبيعة البنى الاجتماعية والثقافية والسياسية.
في سياق علم اجتماع المخاطر يمكن القول إن التضخم يصنف ضمن «المخاطر التقليدية» ذات «احتمالية أقل في حدوثها». إلا أن تداعياتها تتوالد وتحتكم إلى طبيعة السياسات والتدابير الاحتوائية التي يمكن للكيانات السياسية والاقتصادية أن تتخذها إزاء موجات التضخم، وإن كانت الموجة الحالية من التضخم (غير مسبوقة) حسب المؤشرات على مدى العقود الأربعة الماضية فإن هيكلة التدابير يجب أن تكون مبتكرة ومستدامة ذلك أن حدة الاشتباك العالمي، وإمكانية تأثير العوامل الدولية الحرجة (الحرب - إمدادات الطاقة - الإغلاقات - مشهد سلاسل الإمداد والتوريد) يتضاعف يومًا بعد آخر مهما كانت كفاءة السياسة المالية والاقتصادية داخل قُطرٍ معين.
يعنينا في الزاوية الاجتماعية الطريقة التي يؤثر فيها التضخم على الأسر والأفراد وما قد يستتبعها من تحولات في نظم تدبير العيش والحالة المادية، فالتأثيرات المباشرة على الأسر إنما تتجسد في تآكل قيمة الدخول، وتقويض القدرة على الادخار، بالإضافة إلى ضرورة إعادة هيكلة سلة الاستهلاك في حدودها الدنيا للحفاظ على متطلبات العيش اليومي وتدبير الاحتياجات الأساسية. فبحسب البنك الدولي فإن «الأسر الأقل دخلًا في بلدان الأسواق الصاعدة والاقتصادات النامية توجه نحو 50% من دخلها للحصول على المواد الغذائية».
الأهم في موضوع التضخم هو مراقبة كيف تتغير الأسعار فيما يسمى في علم الاجتماع الاقتصادي بالقطاعات الحرجة (الغذاء - الطاقة - المياه - الإسكان) كون أن هذه القطاعات الأربعة هي الأكثر ملامسة للمعيش اليومي وكون أن سلة استهلاك ثلثي التركيبة المجتمعية العالمية تدور حولها.
وبقراءة البيانات في السياق العُماني فبحسب مسح نفقات ودخل الأسرة (أكتوبر 2018 - أكتوبر 2019) حصة الطعام من إجمالي الإنفاق للأسر العُمانية بلغت 28% بمتوسط (211) ريال عُماني، أما وسائل النقل والاتصالات فتستحوذ على ما يقرب من خُمس ميزانية الأسرة العُمانية (21.1%) بمتوسط (160) ريالا عُمانيا.
وبالتأكيد فإن توفير البيانات والتحليلات المُحدثة عن أنماط الاستهلاك والتحولات التي تطرأ على سلة الاستهلاك سيمكن من اقتراح التدابير سواء كانت في صيغة تدابير موجهة للأسواق أو تدابير موجهة للمستهلكين.
وكما هو معلوم فإن صيغ التعامل مع التضخم يمكن أن تقسم في ثلاثة مستويات (سياسات مالية ونقدية على المستوى الكلي - تدابير خاصة بالحماية الاجتماعية - إعادة هندسة السلوك الاستهلاكي). وهنا نعود للقول إن التسريع في إيجاد منظومة حماية اجتماعية متماسكة ومرنة في الآن ذاته هو خط ضمان فاعل لمختلف المخاطر الاجتماعية التي يمكن أن تطرأ مستقبلًا، ونعتقد كذلك بأهمية التفكير في تأسيس منظومة واضحة لما يُعرف بـ«الاقتصاد الاجتماعي/ التضامني» من خلال تفعيل التعاونيات (كشكلٍ من أشكالها) وهندستها بما يخدم دعم المنتجات المحلية أولًا، وإيجاد سياسات مباشرة للحفاظ على استقرار الأسعار في الأسواق وإعادة هندسة الدعم ليكون موجهًا لتلك الأنماط الناشئة من مؤسسات الاقتصاد الاجتماع/ التضامني. في المملكة العربية السعودية هناك مبادرة كشفت عنها وثيقة برنامج التطوير المالي من خلال إيجاد كيان وطني للادخار يكون دوره «تقديم خطط ادخار للأفراد مدعومة من الحكومة لهدف التشجيع على الادخار الخاص في السعودية».
تبرز «الأزمات المعيشية» بما فيها «التضخم» كثاني أهم أبرز المخاطر العالمية التي ترجح مجتمعات خبراء المخاطر العالمية حدوثها وسيادتها في العالم على المدى القصير (0-2 سنوات) والمتوسط (2-5 سنوات) والطويل (5-10) سنوات حسب ما كشفه تقرير المخاطر العالمية 2022 الذي يصدر عن المنتدى الاقتصادي العالمي.
ويرتهن التدبير الجيد للتعامل مع هذه المخاطر في تقديرنا بمدى وجود شبكات فاعلة تعزز الوعي المجتمعي، فعلى مستوى سلوكيات الاستهلاك فإن وعي الأفراد بأبسط المؤثرات (التحيزات السلوكية) التي تؤثر في قرارات الشراء والاستهلاك بوجه عام خط أمان رئيسي للحد من تآكل قيمة الأجور والمدخرات، وبناء منظومة ثقافة مالية قائمة على التخطيط المالي الجيد، وبناء خطة أمان مالي للأفراد والأسر عنصر رئيسي في حسن التدبير لمواجهة مثل هذه التقلبات، وشروع مؤسسات التعليم باختلاف مستوياتها (المدرسي - الأكاديمي) بإدماج منظورات وتطبيقات الثقافة والتخطيط المالي ضمن نهجها الأكاديمي ليس فقط على مستوى استحداث مقررات أو معارف نظرية وإنما أن تهيكل الأنشطة الصفية واللا صفية لخدمة هذا الملف، أو بالأحرى محاولة التفكير في تهيئة بيئة أكاديمية تستطيع تأهيل الدارسين للتعامل مع فكرة مجتمع المخاطر العالمي التي تبدو انعكاساتها على الفرد في نظرنا في ثلاثة أبعاد أساسية:
- تصميم وتخطيط نظام الحياة بطريقة مرنة للتعامل مع التقلبات والتحولات.
- نظرة أكثر واقعية تجاه موضوع الموارد في مقابل الاستهلاك.
- الانخراط في شبكات تضامن مجتمعي قادرة على توفير السلع والخدمات والمنتجات لتلبية الاحتياج المحلي.
