التحرك العماني.. وتوفير متطلبات النجاح !!

10 مايو 2021
10 مايو 2021

د. عبد الحميد الموافي -

في الوقت الذي تفرض فيه تطورات جائحة كورونا، وتحور فيروس (كوفيد- 19) انشغال مختلف الدول بالآثار المترتبة على هذه الجائحة داخل حدودها، اقتصاديا واجتماعيا وصحيا بالطبع، إلا أن الشعور العميق بالمسؤولية والحرص على التهيئة لتحقيق السلام والاستقرار، وتجاوز الخلافات والمواجهات المسلحة التي تشتعل في المنطقة، وتوفر الإرادة السياسية للعمل وبذل الجهد على هذا الدرب لدى السلطنة، واستعادة القدرة العملية على العمل من أجل صالح دول وشعوب المنطقة، قد واكبه استعداد ورغبة واضحة ومعلنة من جانب مختلف الأطراف، خليجية وإقليمية ودولية للعمل من أجل إنهاء الخلافات والمواجهات المسلحة وإفساح الطريق أمام اتخاذ خطوات عملية لإنهاء الحرب في اليمن، وإدخال الوضع في سوريا إلى مرحلة جديدة، وبناء مناخ أفضل يسمح بمزيد من التقارب بين دول المنطقة، بعد سنوات من الخلافات والحروب بالوكالة بين بعضها. ومن ثم فقد توفرت الإرادة السياسية لدى مختلف الأطراف الخليجية والإقليمية والدولية للتحرك نحو مرحلة أفضل يمكن أن تحمل بشائر السلام والمزيد من التفاهم والتقارب بين دول المنطقة.

وإذا كان توفر الإرادة السياسية والرغبة في العمل، والقدرة على الإسهام العملي والالتزام بما يتم التوصل إليه من اتفاقات وتفاهمات بين الأطراف المعنية، في كل حالة من حالات الخلاف والمواجهات المسلحة، تشكل عناصر ضرورية للتحرك لإيجاد المناخ الملائم لبناء واستعادة الثقة بين الأطراف المعنية، فإن الدور الذي يمكن أن تسهم به السلطنة يظل دورا مهما وحيويا ومطلوبا، وهو ما أكدته العديد من المشكلات والقضايا التي شهدتها المنطقة، خليجيا وإقليميا ودوليا أيضا. وبقدر ما تعتمد السلطنة على خبراتها الدبلوماسية ورصيد الثقة العميقة فيها من جانب الأشقاء والأصدقاء، فإنها تعتمد أيضا على المهارات الدبلوماسية الرفيعة المتوفرة لديها الآن، وعلى القدرة على الإسهام في إيجاد نقاط التقاء بين الأطراف المعنية، وفي إطار ما تتوافق عليه الأطراف، التي باتت جميعها تدرك بعمق أنه آن الأوان لوقف المواجهات التي تحولت إلى استنزاف لكل الأطراف، وإعادة بناء العلاقات مع القوى المختلفة على أسس واضحة ومحددة ومعلنة لخدمة المصالح المشتركة والمتبادلة، واحترام السيادة وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للأطراف الأخرى، وبما يلتزم بأمن كل الأطراف ومصالحها على قاعدة التبادل والالتقاء لبناء المصالح المشتركة في الحاضر والمستقبل، خاصة أن كل الأطراف، خاصة تلك التي جربت محاولات التدخل والهيمنة وتوسيع دوائر النفوذ بشكل أو بآخر، أدركت وبعمق أن الأفضل هو التخلي عن ذلك وبناء علاقات تقوم على الثقة والاحترام المتبادل والقدرة على تحقيق المصالح المتوازنة، فذلك هو أفضل السبل لخدمة مصالح كل الأطراف ولبناء علاقات مستقرة وترسيخ سلام دائم يمكن كل الأطراف من الازدهار وبناء حياة أفضل لأبنائها في الحاضر والمستقبل.

ومع إدراك أن عملية الانتقال من حالات المواجهة والخلافات المتفجرة والخطاب الزاعق أحيانا، إلى حالات التهدئة والتخلي عن الشعارات الطنانة والعمل في إطار توازن المصالح والسير على طريق صنع السلام وإرساء أسس الاستقرار طويل الأمد يحتاج بالضرورة إلى وقت غير قليل، وإلى جولات عدة من المفاوضات، وتذليل كثير من العقبات وتنمية الثقة المتبادلة، وهو ما يتطلب وجود طرف قادر على التهيئة لذلك، والصبر عليه والحفاظ على ثقة الأطراف المعنية في جهوده، والاستماع إلى وجهة نظره المخلصة، فإن السلطنة قد توفرت لها كل مقومات القدرة على القيام بذلك والنجاح فيه أيضا، وهو ما يتوفر لها الآن في ظل قيادة جلالة السلطان هيثم بن طارق المعظم- حفظه الله ورعاه- كما توفرت من قبل. ولذا فإنه ليس مصادفة أبدا أن تشهد هذه الأيام تحركات نشطة عمانية وإقليمية ودولية، وهى تحركات تسلط الضوء مرة أخرى على الدبلوماسية العمانية، وما يمكن أن تقوم به السلطنة من أجل الأشقاء والأصدقاء ومن أجل السلام والاستقرار لكل دول وشعوب المنطقة.

وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى بعض الجوانب، لعل من أهمها ما يلي: أولا: إنه في ظل الترابط القوي، والمستمر أيضا، بين السياستين الداخلية والخارجية للدولة، باعتبار أن قوة واستقرار الدولة داخليا، يدعم ويعزز تحركاتها الخارجية على مختلف المستويات، فإن حكومة جلالة السلطان المعظم تسعى جاهدة من أجل تعزيز الأداء في كل المجالات، سواء فيما يتصل بمواجهة فيروس (كوفيد-19) والعمل من أجل الحد من انتشاره وتوفير المزيد من اللقاحات الضرورية، أو في القطاعات الاقتصادية والاجتماعية والخدمية والإنتاجية الأخرى.

وبالنظر إلى أن النجاح في تحقيق الأولويات والأهداف المحددة في إطار الرؤية الاستراتيجية (عمان 2040) وعلى صعيد خطة التنمية الخمسية العاشرة (2021 - 2025) والبرامج المختلفة في إطارها والمشروعات الجاري تنفيذها ومتابعتها، لا يتوقف على جهود الحكومة وحدها، ولكنه يتطلب بالضرورة الإسهام والمساندة الجماهيرية على أوسع نطاق ممكن، وعلى كل المستويات، وهو ما يمكن لمجلس الشورى الإسهام فيه بقدر ملموس، بحكم دوره واختصاصاته، فإن الاجتماع المشترك الذي عقد يوم الرابع من مايو الجاري، حيث استقبل صاحب السمو السيد فهد بن محمود نائب رئيس الوزراء لشؤون مجلس الوزراء وعدد من أصحاب السمو والمعالي أعضاء مجلس الوزراء، وأصحاب السعادة أعضاء مكتب مجلس الشورى العماني برئاسة سعادة خالد بن هلال المعولي رئيس مجلس الشورى، يكتسب الكثير من الأهمية، ليس فقط على صعيد تأكيد وتعميق الحوار البناء بين مجلس الوزراء ومجلس الشورى العماني، وزيادة مساحة الفهم والتقدير المشترك لمختلف القضايا والاهتمامات والأولويات الوطنية، ولكن أيضا على صعيد العناية بالمواطن العماني والعمل على التخفيف قدر الإمكان من أعباء جائحة كورونا، وزيادة سبل التخفيف اجتماعيا واقتصاديا من آثارها بالنسبة للمواطن العماني، مع إيضاح الدور الذي تقوم به الحكومة،على صعيد تشغيل القوى العاملة الوطنية وحوكمة الشركات الحكومية وتنظيم إداراتها تعزيزا لكفاءتها، وأهمية أن يصل ذلك إلى المجتمع على أوسع نطاق ممكن، وهو ما يمكن أن يسهم فيه مجلس الشورى العماني بشكل فعال، إلى جانب مؤسسات الدولة الأخرى، على امتداد أرض عمان الطيبة.

ثانيا: إنه في الوقت الذي يشكل فيه تعزيز وتقوية الجبهة الداخلية والتماسك المجتمعي، قاعدة وركيزة للتحرك العماني الفعال على الصعيد الخارجي، وهو ما تعيه القيادة العمانية على نحو عميق، فإن التحركات العمانية النشطة على الصعيد الدبلوماسي، ومجموعة الزيارات التي شهدتها العاصمة مسقط، في الأيام الأخيرة، ومن أبرزها زيارة كل من الأمير فيصل بن فرحان آل سعود وزير خارجية المملكة العربية السعودية، والدكتور محمد جواد ظريف وزير خارجية الجمهورية الإسلامية الإيرانية، وليندر كينج المبعوث الأمريكي الخاص لليمن، ومارتن جريفيث ممثل الأمين العام للأمم المتحدة في اليمن، ووفد جماعة أنصار الله الحوثية، تشير بوضوح إلى أن السلطنة تسعى جاهدة من أجل بناء درجة ما من التوافق بين الأطراف المعنية بالأزمة اليمنية من أجل السير نحو إنهاء الحرب والدخول في مفاوضات للتوصل إلى حل سلمي يعيد لليمن الشقيق استقراره وسلامه وبمشاركة مختلف القوى والأطراف اليمنية أيضا، ودون استئثار أو استبعاد لأي منها، حرصا على مشاركة مختلف الأطراف اليمنية في البناء لمرحلة جديدة.

جدير بالذكر أن الاهتمام العماني والحرص على بذل كل ما يمكن من مساع حميدة لتحقيق السلام واستعادة الاستقرار إلى الجمهورية اليمنية الشقيقة، هو اهتمام عماني قديم ومتجدد، إذ أن السلطنة بذلت بالفعل جهودا عديدة على مدى السنوات الماضية، كما أنها استضافت الكثير من اللقاءات والمحادثات بين طرفين أو أكثر من الأطراف المعنية بالأوضاع والحرب في اليمن، إلا أن التحركات العمانية الأخيرة وما واكبها من زيارات رفيعة المستوى تكتسب أهميتها من حقيقة أنها تتم في إطار مناخ إقليمي ودولي يشهد تطورا وتغيرا إيجابيا، بين الأطراف المعنية بالأزمة اليمنية، وذلك على نحو غير مسبوق منذ بداية الأزمة اليمنية قبل نحو ست سنوات. ونقصد بذلك الموقف الأمريكي الواضح من جانب إدارة بايدن والمحبذ لوقف القتال في اليمن والعمل من أجل حل سلمي، وكذلك التطور الإيجابي في العلاقات السعودية الإيرانية، وخاصة تصريحات الأمير محمد بن سلمان ولي العهد السعودي الإيجابية حيال إيران، وما تردد أيضا عن لقاءات إيرانية سعودية على المستوى الأمني في العراق لاستكشاف سبل تحسين العلاقات بين البلدين، ومن جانب آخر تأكيدات إيران لرغبتها في تحسين العلاقات مع السعودية والتعاون معها لوقف الحرب في اليمن، وبالطبع المساعي التي يقوم بها المبعوث الدولي لليمن مارتن جريفيث واتصالاته ومقترحاته لوقف القتال في اليمن ومباحثاته مع مختلف القوى والأطراف اليمنية ومنها حكومة الرئيس عبد ربه منصور هادي وجماعة أنصار الله الحوثية.

وبينما تعطي هذه التطورات زخما للتحركات العمانية، خاصة في ظل حقيقة أن السلطنة تمتعت وتتمتع بالفعل بثقة وتقدير كل الأطراف المعنية بالأوضاع في اليمن، سواء كانت يمنية أو خليجية أو إقليمية أو دولية، فإن الجهود والمساعي العمانية خلال السنوات الماضية، وما تمتعت به السلطنة من مصداقية والتزام بما تعلنه، والقدرة على الحفاظ على خيوط التواصل مع كل الأطراف المعنية، تحت كل الظروف، توفر للسلطنة فرصة ومساحة كبيرة للحركة والعمل لبناء مناخ أفضل ومن ثم العمل لبناء الثقة بين الأطراف المعنية وهو ما يعد أمرا ضروريا للبناء عليه واتخاذ خطوات عملية على الأرض يمكن أن تلتزم بها كل الأطراف.

ثالثا: إنه في حين تعمل السلطنة على بذل كل ما يمكنها لوضع نهاية للمأساة في اليمن، والتوصل إلى وقف دائم لإطلاق النار يتم الالتزام به من كل الأطراف اليمنية، فإن إدراك السلطنة لطبيعة وتعقيدات الأوضاع في اليمن، والتدخلات المتعددة، وبعضها قصير النظر ويبحث عن مصالح ذاتية ولو على حساب الدولة والشعب اليمني الشقيق، يجعل السلطنة أكثر صبرا، وأكثر واقعية وأكثر فهما للحاجة إلى بعض الوقت، سواء لإنضاج مواقف الأطراف المختلفة، أو للتوصل إلى نقاط التقاء تحظى بتوافق أكبر فيما بينها، بما في ذلك الحفاظ على توازن المصالح، أو لإزالة رواسب شكوك ربما تكلست على مدى السنوات الماضية. ولأن السلطنة خبرت مثل هذه الأمور في قضايا عدة، فإنها تعي تماما أن الأمر سيحتاج إلى جولات من المفاوضات والمناقشات الثنائية والمتعددة الأطراف، وأن النجاح لن يتحقق مع الجولة الأولى أو خلال مدة قصيرة، كما توهم البعض، لأن التعقيدات عديدة ومتنوعة كذلك. يضاف إلى ذلك أنه بينما تبذل السلطنة مساعيها الحميدة، فإنها تعي جيدا أن النجاح يظل في النهاية مسؤولية الأطراف المعنية بالأزمة اليمنية في المقام الأول. صحيح أنها تعمل على تهيئة الجو المناسب في اللقاءات التي تستضيفها، وتعمل على ضمان تفهم كل طرف لمواقف الأطراف الأخرى، ولكن الصحيح أيضا أنه لا يمكنها أن تفرض شيئا على أحد الأطراف وإن كانت تشرح رؤيتها وتقييمها بوضوح وشفافية وتترك للأطراف حرية تحديد خياراتها في كل مرحلة.

وفي ضوء ذلك فإنه من الطبيعي أن تستضيف السلطنة مزيدا من اللقاءات، وكلما تقدم بناء الثقة بين الأطراف، اتسعت مساحة الالتقاء والتوافق فيما بينها، وهو ما تعمل من أجله الدبلوماسية العمانية دون كلل، ودون إحباط من تعثر هنا أو مشكلة هناك، إيمانا منها بأن السلام لابد أن يعود لليمن الشقيق وبما يحافظ على وحدة أراضيه ومجتمعه وسيادته أيضا وبما يجمع كل القوى اليمنية في بوتقته الواحدة على النحو الذي يرونه محققا لمصالح اليمن الشقيق في الحاضر والمستقبل.