الاقتصاد العُماني.. خطط مُحكمة ونتائج عظيمة

26 ديسمبر 2022
26 ديسمبر 2022

اعتماد سعر 55 دولارا أمريكيا في الموازنة العامة للدولة للعام المقبل 2023 يعد توجها حكيما الذي يعزّز التحوط بدلا من التوسع في الإنفاق كون أغلب التوقعات التي تشير إليها التقارير الاقتصادية الدولية أن العالم مقبل على حدوث ركود عالمي ربما يعصف بالاقتصاد العالمي، لكن في المقابل ينبغي علينا جميعا أن نستبشر بمستقبل المالية العامة للدولة التي تواصل استدامة وضعها المالي وتسعى لتحقيق جملة من الأهداف الاجتماعية والاقتصادية أبرزها تحقيق نمو اقتصادي لا تقل نسبته عن 3% ومعدلات التضخم معتدلة بنحو 3% واستيعاب الباحثين عن عمل وفق خطة البرنامج الوطني للتشغيل إضافة إلى الإنفاق الاستثماري على المشاريع الحكومية.

تحدّثنا كثيرا في مقالات سابقة عن الظروف التي مر بها الاقتصاد العالمي عموما والاقتصاد العُماني خصوصا خلال السنوات الماضية، فكانت مرحلة عصيبة جدا عمّقها تفشي جائحة كورونا (كوفيد-19) منذ ديسمبر عام ٢٠١٩ لمدة تتجاوز العامين مما ألقت تلك الأزمات الاقتصادية والصحية بجل ثقلها على مفاصل الاقتصاد العالمي المأزوم أصلا منذ أزمة انخفاض أسعار النفط العالمية لأكثر من 70% من سعره منذ منتصف عام 2014، تلك الجائحة بما خلفته من تداعيات وخيمة سيتطلب معالجتها سنوات قادمة أخرى كما يقر بذلك الاقتصاديون، حتى نشب الصراع الروسي-الأوكراني الذي أربك مساعي الإصلاحات الاقتصادية الحثيثة للجائحة واحتوائها مما أسهم في ارتفاع معدلات التضخم عالميا لمستويات قياسية الأمر الذي دفع البنك الفيدرالي الأمريكي لرفع نسبة الفائدة على مختلف القروض عدة مرات ليصبح 5% بهدف كبح جماح التضخم، وكون الريال العُماني مرتبطا بالدولار الأمريكي كان لزاما اتباع نفس السياسة النقدية الأمريكية للحفاظ على نظام سعر الصرف الثابت للريال العماني، والحد من هجرة رأس المال للخارج وتعزيز الثقة بين المستثمرين بإزالة خطر تقلبات سعر الصرف، وبالرغم من قيام البنك الفيدرالي الأمريكي برفع نسبة الفائدة إلا أن البنك المركزي العُماني حث البنوك المرخصة على عدم زيادة تكلفة الإقراض للمستهلكين نظرا لوفرة السيولة في النظام المصرفي وللتعامل مع ضعف النشاط الاقتصادي ودعم الاستثمار العُماني والخارجي والنمو الاقتصادي عموما، إذ تشير أحدث الإحصائيات إلى نمو الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الجارية بنسبة 30.4% خلال النصف الأول من العام الجاري 2022م ليصل إلى نحو 20.4 مليار ريال عُماني مقارنة 7.1% خلال نفس الفترة من العام الماضي 2021م، أما نمو الناتج المحلي الإجمالي بالأسعار الثابتة فبنسبة 3.9% خلال النصف الأول من العام الجاري ليصل إلى نحو 17.52 مليار ريال عُماني مقارنة بـ 2.6% خلال الفترة ذاتها من العام الماضي.

إن السياسات الاقتصادية (المالية والنقدية) الناجحة والفاعلة التي اتخذتها حكومة سلطنة عُمان حديثا للتعامل مع مختلف الأزمات الاقتصادية عموما والأزمة الاقتصادية الأخيرة خصوصا نتيجة تفشي فيروس كورونا (كوفيد-19) إضافة إلى استمرار الصراع الروسي-الأوكراني الذي يواصل إرباك جهود الدول في التعافي من جائحة كوفيد-19، أدت سياسات سلطنة عُمان الاقتصادية إلى نتائج مثمرة وإيجابية أسهمت في استدامة الوضع المالي للاقتصاد العُماني؛ إذ استطاعت السلطنة تسديد نحو 3 مليارات ريال عُماني عبر إعادة هيكلة الدين العام للدولة خلال العام الجاري 2022م لينخفض إلى نحو 17 مليار ريال عُماني بنسبة 43% من الناتج المحلي الإجمالي مما انعكس إيجابا على تصنيفها الائتماني من قبل وكالات التصنيف الائتماني العالمية منذ عام 2015، فقد رفعت وكالة ستاندرد آند بورز التصنيف الائتماني لسلطنة عُمان من (BB-) في أبريل 2022م إلى (BB) مع نظرة مستقبلية مستقرة في نوفمبر 2022م، ورفعت وكالة فيتش تصنيف السلطنة الائتماني من (BB-) في ديسمبر 2021م إلى (BB) مع نظرة مستقبلية مستقرة في أغسطس 2022م، فيما عدّلت وكالة موديز النظرة المستقبلية للاقتصاد العماني إلى نظرة إيجابية في أكتوبر 2022م بدلا من نظرة مستقرة مع استمرار التوقعات بتحسن التصنيف الائتماني لسلطنة عُمان في ظل فاعلية الخطط الاقتصادية التي تنتهجها الحكومة لاستدامة الوضع المالي من أبرزها خطة التوازن المالي (2020-2024) التي أثمرت عن نتائج عظيمة ورائعة مما ساهمت كثيرا في تقليل نسبة الدين العام للدولة لتصل إلى حدود 40% من الناتج المحلي الإجمالي للدولة ولولا وجودها التي أعادت توجيه الدعم الحكومي للفئات المستحقة وجوّدت الإنفاق الحكومي لوصلت نسبة الدين العام لأكثر من 90% من الناتج المحلي الإجمالي.

مع الجهود التي تبذلها الحكومة لإيجاد مناخ مشجّع لاستقطاب الاستثمارات الأجنبية وتحفيز رأس المال المحلي عبر تحسين البيئة المناسبة للاستثمار وتقديم عديد من الحوافز لجلب الاستثمارات الأجنبية واستحداث البرامج الداعمة لها مثل البرنامج الوطني للاستثمار وتنمية الصادرات العُمانية "نزدهر" وبرنامج إقامة مستثمر إضافة إلى إطلاق بوابة استثمر بسهولة التي تعد بوابة للانطلاق لتأسيس المشروعات الاقتصادية وتسهيل الخدمات اللازمة التي يحتاجها قطاع الأعمال، أثمرت تلك الجهود الحكومية إلى وصول القيمة التراكمية للاستثمارات الأجنبية المباشرة في سلطنة عُمان نحو 18 مليار ريال عُماني حتى نهاية النصف الأول من العام الجاري بنسبة نمو بلغت 17.4% مقارنة بالفترة ذاتها من العام الماضي 2021م.

فالخطط الاقتصادية المحكمة التي اتخذتها حكومة سلطنة عُمان حديثا ساعدت في تحقيق وفورات مالية كبيرة مدعومة بتحسّن إيرادات النفط المالية في استقرار سوق العمل والتشغيل عبر تسديد مستحقات القطاع الخاص بأكثر من مليار ريال عُماني ودعم تثبيت تسعيرة الوقود ودعم أسعار السلع الغذائية الأساسية إضافة إلى إدارة المحفظة الإقراضية وخفض إجمالي الدين العام للدولة واستمرار الحكومة دعم منظومة الحماية الاجتماعية للمواطنين عبر تخفيض 15% من فواتير الكهرباء لأشهر الصيف وأيضا تحديد سقف أعلى لتسعيرة الوقود الشهرية حتى نهاية العام الجاري 2022م،إذ وفّرت الحكومة نحو 127 مليون ريال عُماني من خدمة الدين العام المستقبلية عبر تسديد بعض منها قبل موعدها وإعادة جدولة البعض الآخر لخفض خدمة الدين جراء تحسن تصنيف السلطنة الائتماني، ومع نجاح وفاعلية الخطط الاقتصادية التي أقرتها الحكومة للتعامل مع تداعيات انخفاض الإيرادات العامة للدولة لمستويات قياسية إلا أن جهود الحكومة استمرت بعمل دؤوب وبجهود مضنية للتعامل مع ملف الباحثين عن عمل عبر تسريع وتيرة التوظيف في القطاعين العام والخاص عبر مبادرات التوظيف التي أطلقتها وزارة العمل بالتعاون مع مختلف المؤسسات الحكومية مما أسهم في دعم النشاط الاقتصادي ونموّه وتحفيزه.

ولنكن أكثر واقعية في ظل تذبذب أسعار النفط العالمية وفقا للتغيرات الجيوسياسية التي يشهدها العالم خلال السنوات الماضية فإن اعتماد سعر 55 دولارا أمريكيا في الموازنة العامة للدولة للعام المقبل 2023 يعد توجها حكيما الذي يعزّز التحوط بدلا من التوسع في الإنفاق كون أغلب التوقعات التي تشير إليها التقارير الاقتصادية الدولية أن العالم مقبل على حدوث ركود عالمي ربما يعصف بالاقتصاد العالمي، لكن في المقابل ينبغي علينا جميعا أن نستبشر بمستقبل المالية العامة للدولة التي تواصل استدامة وضعها المالي وتسعى لتحقيق جملة من الأهداف الاجتماعية والاقتصادية أبرزها تحقيق نمو اقتصادي لا تقل نسبته عن 3% ومعدلات التضخم معتدلة بنحو 3% واستيعاب الباحثين عن عمل وفق خطة البرنامج الوطني للتشغيل إضافة إلى الإنفاق الاستثماري على المشاريع الحكومية كما جاء في اللقاء الإعلامي للميزانية العامة للدولة لعام 2023 في ظل التوقعات بارتفاع إنتاج النفط ليصل 1.175 مليون برميل يوميا وارتفاع إيرادات الغاز خلال العام المقبل.