الاقتصاد السلوكي والرأي العام

12 سبتمبر 2022
12 سبتمبر 2022

الاقتصاد السلوكي هو أحد أنواع الاقتصادات التي تسعى دول العالم لتعزيزه وهو دراسة سيكولوجية لكونه تحليلا لعمليات صنع القرار التي يتخذها الأفراد والمؤسسات، فهو مزيج بين علم الاقتصاد وعلم النفس لدوره في اتخاذ قرارات مختلفة دون الأخذ في الحسبان العوامل الاقتصادية المبنية على تحريك العاطفة التي ربما تؤدي إلى نتائج عكسية وليست في صالح المستهلك مما يشير إلى أن الشخص ليس عقلانيا وغير مؤهل لاتخاذ قرارات صائبة في ظروف مختلفة. فمثلا عند قيام بعض الأشخاص ممن يعانون من السمنة أو الوزن الزائد بالتخطيط لخفض أوزانهم عبر تناول وجبات صحية، فإن سلوكهم يتأثر أو خططهم تفشل بمجرد قيام بعض المشاهير في وسائل التواصل الاجتماعي بالترويج لتخفيضات وحسومات كبيرة لأحد المطاعم مما يسهم في فشل مشروع خفض الوزن بسبب تأثر الأشخاص عاطفيا واجتماعيا بتلك التخفيضات والحسومات.

ولفهم أوسع حول الاقتصاد السلوكي ما نلحظه في ترتيب المشروبات في المحال التجارية، فتعزيز تطبيقات هذا النوع من الاقتصاد يتطلب وضع المشروبات الصحية في الرف الأمامي ليكون أكثر بروزا أو في مكان يسهل على المستهلك الحصول على المشروب الصحي لمساعدته على الخيار الأنسب والصحي بالنسبة له ووضع المشروبات غير الصحية مثل المشروبات الغازية في مكان أقل بروزا، وتسمى هذه العملية بالوكز إذ تقوم بتوجيه الأشخاص نحو خيارات صحية.

فبالرغم من عدم وجود تطبيقات فاعلة للاقتصاد السلوكي في كثير من دول العالم بالإضافة إلى كون تطبيقاته عكس افتراضات النظرية الاقتصادية التقليدية، إلا أنه أثبت نجاعته في تصميم السياسات العامة أو قراراتها عبر القدرة على توجيه الأشخاص نحو الخيار الأفضل والمناسب لهم، فمثلا يمكن أن تقوم الحكومات بتوجيه الأشخاص لتصحيح خياراتهم عبر وضع الخيار الأفضل لهم كخيار افتراضي بالاستفادة من سلوك الأشخاص في عدم رغبتهم بتغيير قرارهم أو خيارهم الحالي، إذ أثبتت النظريات العلمية المبنية على دراسة سلوك الأشخاص وميولهم بأن طبيعة الشخص تأثره بالخيار الذي نُصح به، وهذا ما يمثّل عكس افتراضات النظرية الاقتصادية التقليدية التي تفترض أن الأشخاص يفضلّون ويختارون الخيار الأفضل بغض النظر عن التوجيه نحوه أو وضعه كخيار افتراضي.

إن ما يميّز الاقتصاد السلوكي عن الاقتصاد التقليدي أن الأول يهتم بالأشخاص من الناحية العاطفية والعقلانية التي تتأثر قراراتهم بالمشاعر وعلاقات بعضهم البعض، إذ يمكن إحداث تغيّر على خياراتهم عبر تحفيزهم في اتخاذ قرارات عن طريق تطبيقات مختصة ومصممة لذلك مع مراعاة طبيعة الإنسان ومدى تأثرها بالمتغيرات التي تطرأ حولهم، فيما يسود طابع المنطق عند اتخاذ القرارات في الاقتصاد التقليدي، فأصبح من الجيد دمج النظريات الكلاسيكية للاقتصاد بمبادئ وتطبيقات الاقتصاد السلوكي لحماية الأشخاص من سوء اتخاذ القرارات الناتجة عن سلوكيات غير منطقية وعاطفية بالدرجة الأولى.

ويرى كثير من المتابعين لتطورات الاقتصاد السلوكي أنه اقتصاد قائم على التحكم بقرارات الأشخاص وتوجهاتهم وخياراتهم، إلا أن هذا الفهم المغلوط أسهم في تراجع تطبيقاته على مستوى المجتمعات والأفراد، فهو اقتصاد يسعى لإعادة توجيه سلوك الأشخاص عبر تعظيم مختلف المنافع والفوائد من القرارات التي يتخذونها بهدف رفع رفاهية المجتمع وأفراده، ويمكن تعزيز تطبيقات الاقتصاد السلوكي عبر غرس الأفكار الإيجابية التي تعود بالنفع على الاقتصاد من خلال تكثيف الرسائل الإعلامية الداعمة لهذا النوع من الاقتصاد حتى تتحول الفكرة إلى معتقد وقناعات راسخة لدى الأفراد لينتهجوا السلوكيات المرغوبة منهم لتكوّن أساس ممارساتهم اليومية وذلك وفقًا لعلم النفس السلوكي.

لقد أولت حكومة سلطنة عُمان اهتمامًا بالاقتصاد السلوكي عبر إنشاء دائرة الاقتصاد السلوكي ضمن هيكلة وزارة الاقتصاد حديثا، إذ تساعد على إعادة صياغة السياسات بأساليب تحث الأفراد على التطبيق وتحقيق مصالحهم بالإضافة إلى ابتكار حلول للتحديات التي تواجه المجتمع غير مكلفة ماديًا في ظل المتغيرات الاقتصادية التي يشهدها العالم خلال السنوات الماضية عن طريق فهم سلوكيات الأشخاص وتوجيههم نحو الخيار المناسب لهم، ويعوّل كثير من المهتمين بالاقتصاد السلوكي أن تقوم هذه الوحدة وهذا النوع من الاقتصاد وتطبيقاته لدى الأشخاص بتوجيههم نحو الخيارات المناسبة لهم.

من الأمثلة الناجحة على الاقتصاد السلوكي في السلطنة ما يقوم به حساب عُمان تواجه كورونا في وسائل التواصل الاجتماعي الذي يديره مركز التواصل الحكومي بوزارة الإعلام، إذ يقوم بصياغة رسائل إعلامية فاعلة تحث على الالتزام بأساليب الوقاية من انتشار فيروس كورونا لضمان تطبيق أفراد المجتمع للقرارات الصادرة عن اللجنة التي شكّلت حديثا للتعامل مع تطورات الجائحة دون النظر للأمور بطريقة تقليدية من خلال سن قوانين وفرض عقوبات في حال عدم تطبيق قرارات اللجنة، لذلك فإن تشكّل الرأي العام والتعامل معه يتطلب الاستفادة من تطبيقات الاقتصاد السلوكي وأثرها على توجهات الرأي العام بالإضافة إلى وجود بيانات صحيحة ودقيقة عبر إنشاء مراكز بحثية متخصصة في ابتكار حلول للتحديات التي تواجه المجتمعات وأفرادها وداعمة للقرارات الحكومية المعززة للاقتصاد السلوكي.

أرى من الأهمية البالغة توجيه مشاهير التواصل الاجتماعي أو ما يطلق عليهم المؤثرون والفاعلون بالإضافة إلى الحسابات الإخبارية الفاعلة والمؤثرة نحو تعزيز تطبيقات الاقتصاد السلوكي لدى الأشخاص ومتابعي تلك الوسائل بمختلف أنواعها خاصة مع ارتفاع حجم التفاعل فيها مع مختلف الموضوعات والقضايا ولكونها إحدى الوسائل الحديثة التي يحبذها الجيل الحالي لمناقشة تطلعاته وتحدياته، إذ يعد كل من المشاهير والحسابات الإخبارية إحدى الوسائل التي تساعد على توجيه الرأي العام وتحديد منطلقاته، فاستراتيجية التعامل مع الرأي العام تتطلب تكاتف الجهود المختلفة لفهم سلوك الأشخاص وتوجيههم نحو الخيار المناسب والأفضل لهم.