الاستثمار في التواصل والإعلام
يعد من أكثر متطلبات العمل المؤسسي تخصيص بنود الموازنات التي تضمن أداء المؤسسة أعمالها وفاعلية تقسيمات هيكلها الإداري بما يخدم أهداف المؤسسة ككل. وبالرغم من أن توزيع الموازنات على البنود تحكمه بشكل أساسي طبيعة عمل المؤسسة، إلا أن هذا الجانب لا يخلو من التدافعات التي تتم بين المعنيين بالإدارة المالية ضمن المؤسسة وبقية التقسيمات خصوصا قبيل نهاية العام مع تحديد بنود موازنات العام المقبل.
ولا تستثنى من تلك التدافعات الفرقُ القائمة على التواصل والإعلام؛ خصوصا وأنها في أحيان كثيرة قد ينظر أعمالها أنها ضمن كماليات الأعمال، وأنها ليست من صميم عمل المؤسسة ككل، وأن مخصصاتها تكون ضمن أول البنود التي يتم تخفيضها عند أي خطط لخفض الإنفاق، وآخر البنود التي يتم التفكير في تعزيزها في أوقات الوفرة المالية. إضافة لذلك فإن من الشائع النظر إلى تلك الفرق على أنها يجب أن تقوم بأعمالها باستغلال مواردها الداخلية دون الحاجة إلى المخصصات المالية الكبيرة. لكن قد تكون تلك النظرة نسبية في كثير من الأحيان وتعتمد على مجموعة من العناصر أبرزها الأولوية التي يضعها رئيس الوحدة لوظيفة التواصل والإعلام ضمن المؤسسة، ومدى التمكين الذي تتمتع به الفرق القائمة على التواصل والإعلام، وربما حتى نظرة المعنيين بالإدارة المالية في المؤسسة تجاه وظيفة التواصل والإعلام.
إذن كيف يمكن تغيير تلك النظرة تجاه الإنفاق على التواصل والإعلام إلى ما يمكنه خدمة المؤسسة بشكل أفضل؟ إن أول الاعتبارات التي يمكن النظر إليها في سياق هذا النقاش هو النتيجة النهائية لكل أنشطة التواصل والإعلام؛ وهي بناء الهوية المؤسسية، التي تعد أبرز تجسيد لسمعتها بين الجمهور عموما وبين الأطراف ذات العلاقة بالمؤسسة على وجه الخصوص. وحيث أن سياق النقاش هنا ينظر إلى وظيفة التواصل والإعلام من منظور مالي، فلعله من المفيد مقاربتها بالمنهجية المحاسبية والمالية.
محاسبيا، تتطرق ممارسات تقييم الأصول إلى إمكانية تقسيمها إلى أصول ملموسة Tangible Assets وأصول غير ملموسة Intangible Assets، تشمل الأولى ما تمتلكه المؤسسة من مبان ومعدات وتجهيزات وأنظمة ومركبات وأثاث وغيرها من الأشياء الشاخصة للعيان، بينما تشمل الثانية حقوق الملكية الفكرية وبراءات الاختراع والسياسات ونظم العمل والهوية المؤسسية. ويمكن أن تشغل تلك الأصول - الملموسة وغير الملموسة - تقييما محددا يتم تضمينه في القوائم المالية للمؤسسات، وتعمل على تقييم كل منها مؤسسات متخصصة سواء الشركات العقارية أو شركات الاستشارة المالية أو المحاسبية أو القانونية. أما فيما يتعلق بالهوية المؤسسية فإن بعض وكالات تقييم الهوية Brand Valuation تقوم بذلك الدور سواء بشكل طوعي عبر مسوحات تقييم الهويات المؤسسية للشركات دوريا من أجل إصدار تقارير عامة، أو عبر التقييم الخاص بناء على طلب المؤسسة. كما تقدم جمعية المحاسبين المعتمدين Association of Chartered Certified Accountants أو ACCA - وهي من أهم المؤسسات المرجعية في المحاسبة عالميا - لمنتسبيها طرقا وآليات لاحتساب قيمة الهوية المؤسسية من أجل تضمينها في القوائم المالية للمؤسسات.
أما من الجانب المالي فإن من أهم ما ينبغي التطرق إليه هو حساب العائد على الإنفاق - أو الاستثمار - الذي يكون في كثير من الأحيان أحد العناصر التي يمكن على أساسها اتخاذ القرارات المالية. وهنا يمكن استحضار العديد من الجوانب التطبيقية التي من شأنها توضيح أهمية الإنفاق على التواصل والإعلام؛ فكما تنفق شركة آبل الأمريكية مبالغ طائلة من أجل صناعة منتجها الشهير هاتف آيفون عبر مراحل البحث والتطوير والنمذجة والتصنيع والبرمجة والتغليف، فإنها أيضا تنفق الكثير من الأموال من أجل ترويجه لضمان مبيعاته. وكما أن منتجا شهيرا مثل جهاز الآيفون لا يمكن أن يحقق أهداف مبيعاته بمجرد طرحه في الأسواق، فإن أي سياسة أو خدمة أو مبادرة أو مشروع لا يمكن أن يحظى بالانتشار والقبول بين الجمهور المستهدف دون الاستثمار في أنشطة التواصل والإعلام التي تضمن الوصول والقبول والتأثير.
ولعل من التجارب الواقعية في سلطنة عمان المنهجية التي اتبعتها إحدى المؤسسات المتخصصة في الترويج عبر الرياضة، حيث اعتمدت المؤسسة في فترات سابقة ضمن تقاريرها السنوية على إيضاح العائد على الاستثمار في التواصل والإعلام كإحدى أوجه نجاح أعمالها، والذي بين أنه في إحدى السنوات كان العائد على الاستثمار يبلغ ثمانية ريالات مقابل كل ريال يتم إنفاقه في تلك الأنشطة. ويتم الوصول إلى قيمة ذلك العائد عبر منهجية علمية متبعة في مختلف أنحاء العالم تتمثل في احتساب قيمة المساحات الإعلامية في الوسائل المطبوعة والمرئية والمسموعة وعلى الإنترنت على اعتبار أنها مساحات إعلانية تم نشرها في ذات الوسائل.
وفي مجمل القول فإنه من المهم - سواء بالنسبة للمؤسسات أو الحكومات ككل - أن تضع في الحسبان أهمية الاستثمار في التواصل والإعلام، والذهاب إلى أبعد من الركون إلى مواردها الداخلية في تنفيذ أنشطة التواصل والإعلام، وتجنب الاعتقاد بأن إتاحة المعلومات بالطرق التقليدية سيكون كافيا لإيصال رسائلها الإعلامية.
إن مما يمكن التطلع إليه في مرحلة تؤدي فيها منصات ووسائل التواصل والإعلام دورا مهما في صياغة الرؤى الوطنية والسياسات العامة وتخطيط المشروعات والمبادرات وإطلاق الخدمات، هو إيلاء الاهتمام الأكبر بمخصصات بنود موازنات التواصل والإعلام. وربما مما يمكن استحضاره من النماذج، الكلفة الكبيرة التي قد تقع على الجهات المعنية - أو الحكومة ككل - مع إطلاق مبادرات للتحفيز الاقتصادي أو تطوير بيئة ممارسة الأعمال أو جذب الاستثمار، والتي لا يصاحبها في كثير الأحيان المخصصات الكافية لترويجها، وتكون المحصلة النهائية الاكتفاء بأنشطة تقليدية ذات فاعلية محدودة وغير مستدامة تعكس مستوى الموارد المالية المتاحة لدى الفرق القائمة على التواصل والإعلام.
بدر الهنائي عضو مجلس Forbes لخبراء التواصل
