الاتفاق البحري اللبناني الإسرائيلي.. والبحث عن مكسب !!
في الوقت الذي تحتدم فيه أزمة إمدادات الغاز الروسي لأوروبا، والمرشحة لمزيد من التفاقم بسبب موقف الاتحاد الأوروبي من روسيا وحربها في أوكرانيا، وبعد نحو عامين من المفاوضات غير المباشرة بين لبنان وإسرائيل برعاية الوسيط الأمريكي " آموس هو كشتاين " تم الإعلان يوم الثلاثاء الماضي 11 / 10 / 2022 عن التوصل إلى مسودة متفق عليها بين لبنان وإسرائيل لتحديد الحدود البحرية بينهما في منطقة التنقيب عن الغاز الطبيعي – المربع 9 – في مياه شرق البحر الأبيض المتوسط المقابلة لجنوب لبنان وشمال إسرائيل.
وبالرغم من أن تحديد الحدود البحرية تم في منطقة صغيرة من الحدود البحرية بين الدولتين، مقارنة ببقية الحدود البحرية بينهما، وبالرغم أيضا من اتفاق لبنان وإسرائيل على إمكانية إعادة النظر في الاتفاق والتفاوض بشأنه عند تحديد الحدود البرية بين لبنان وإسرائيل في المستقبل – وهو ما تضمنته مسودة الاتفاق – إلا أنه يمكن القول إن مسودة الاتفاق التي تمت الموافقة عليها، وتم العمل بنشاط وسرعة لإقرارها رسميا من جانب المؤسسات اللبنانية والإسرائيلية، وهو ما تم الخميس الماضي - أي بعد 48 ساعة فقط من الإعلان عن مسودة الاتفاق - هي بالفعل بمثابة نزع فتيل أزمة هددت خلال الأشهر الماضية بإمكانية اندلاع مواجهة مسلحة بين حزب الله اللبناني وإسرائيل، والأكثر من ذلك أنها قد تفتح المجال أمام احتمالات أكثر إيجابية للأوضاع في شرق المتوسط بوجه عام، وبين لبنان وإسرائيل بوجه خاص. وفي هذا الإطار فإنه يمكن الإشارة باختصار شديد إلى عدد من الجوانب، من أهمها ما يلي:
أولا: إنه إذا كانت القوات الإسرائيلية قد دخلت بيروت في عام 1982 مما أدى إلى خروج ياسر عرفات والمقاومة الفلسطينية من لبنان إلى تونس، فإن محاولات إسرائيل إنشاء منطقة عازلة في جنوب لبنان ووضع قوات موالية لها فيها – مثل قوات الجنرال إنطوان لحد والرائد سعد حداد – قد باءت بالفشل بسبب تنامي وازدياد قوة حزب الله مع مرور الوقت بعد تغير قيادته التي نشأ بها بموافقة إسرائيلية، وبعد التنسيق الأعمق والأوسع بين القيادة الجديدة لحزب الله وبين إيران وسوريا وإمداده بالسلاح عبر سوريا على مدى السنوات الماضية إلى حد أصبح يقلق إسرائيل بشكل فعلي وعملي على الأرض. وقد اضطر شارون في عام 2000 إلى سحب القوات الإسرائيلية من جنوب لبنان، وبقيت مزارع شبعا هي ما تحتله إسرائيل من الأراضي اللبنانية. فإن العلاقات اللبنانية الإسرائيلية تظل محكومة باتفاقية الهدنة لعام 1949 وبقواعد عمل قوات الأمم المتحدة في جنوب لبنان، ومن ثم فإن حالة الحرب تظل قائمة رسميا بين البلدين حتى الآن، ولم يغيرها اتفاق السلام الذي أبرمه رئيس الوزراء اللبناني الأسبق شفيق الوزان عام 1983 مع إسرائيل، لأن الاتفاق تم إلغاؤه سريعا بضغط سوري ولبناني داخلي حيث استقال شفيق الوزان، وبالتالي فإنه حتى الآن لم يدخل لبنان - برغم كل ظروفه المعروفة - دائرة التطبيع مع إسرائيل إذ تعارض المقاومة اللبنانية ذلك بشدة.
وإذا كانت المقاومة اللبنانية بقيادة حزب الله قد جعلت من الحفاظ على موارد لبنان الطبيعية، وخاصة الغاز الطبيعي، ضمن أهم أولوياتها، لاعتبارات سياسية وإعلامية وعملية معروفة، حيث هدد حزب الله بقصف معدات التنقيب في حقل " كاريش " الإسرائيلي، ومؤكدا على أن إسرائيل لن تحصل وحدها على الغاز إذا لم يحصل لبنان على حقوقه منه، فإن ترحيب حزب الله بمسودة الاتفاق المشار إليه ينطوي على دلالة بالغة، ليس فقط بالنسبة للاتفاق وبالنسبة لدور حزب الله على الصعيد اللبناني، ولكن أيضا على صعيد الاستقرار في شرق المتوسط والحد من الاحتكاك مع إسرائيل بسبب استخراج الغاز الطبيعي. وهذا يؤكد ما تمت الإشارة إليه من أن الاتفاق ينزع فتيل المواجهة مع إسرائيل إلى حد كبير، خاصة أن الهدنة بين إسرائيل وحزب الله قائمة ومستقرة ومستمرة منذ حرب عام 2006 بينهما. وتجدر الإشارة إلى أنه في حين أكد الحزب التقدمي الاشتراكي اللبناني بزعامة وليد جنبلاط - في بيانه حول الاتفاق - أن الاتفاق البحري لا يعني تطبيعا بين لبنان وإسرائيل، فإنه من الملاحظ أيضا أنه لا الولايات المتحدة ولا حتى إسرائيل، ولا لبنان بالطبع استخدمت اصطلاح التطبيع في تعليقاتها على الاتفاق وحديثها عن آثاره التي ستترتب عليه وهذا أمر له معناه ودلالته بالتأكيد.
ثانيا: إنه من المؤكد أن الاتفاق، وسرعة إقراره من جانب الطرفين وبموافقة ورعاية أمريكية، يرتبط بالطبع بالظروف اللبنانية والإسرائيلية والأمريكية، ففي حين تضغط الأزمة الاقتصادية والتدهور الحاد للعملة اللبنانية والخلافات الداخلية على لبنان بشدة، وهو ما يضفي على الاتفاق أهمية وجاذبية على الصعيد اللبناني باعتباره يمثل نافذة وسبيلا لتحسن الأوضاع الاقتصادية وإدخال الغاز الطبيعي ضمن موارد لبنان في الحاضر والمستقبل، وهو ما لا يمكن أن يعارضه أحد – حتى حزب الله – فإن الحكومة الإسرائيلية الحالية ترى فيه إنجازا يثبت قدرتها على إدارة المشكلات بما في ذلك التعامل مع لبنان وحزب الله من ناحية، وخطوة تدعم قدرة وفرص إسرائيل على استغلال حقل " كاريش " دون مضاعفات أو تحديات أمنية كبيرة تصل إلى حد إمكانية المواجهة المسلحة مع حزب الله وهو ما كان قائما قبل التوصل إلى اتفاق من ناحية ثانية، يضاف إلى ذلك أن قادة الأحزاب المشاركة في الحكومة الإسرائيلية يسعون إلى تقديم الاتفاق كإنجاز يحسب لصالحهم للاستفادة منه قبيل الانتخابات العامة القادمة من ناحية ثالثة. أما بالنسبة للإدارة الأمريكية فإن الاتفاق يعزز صورتها الداخلية وعلاقتها مع إسرائيل في وقت انخفضت فيه شعبية بايدن إلى أدنى مستوياتها وذلك قبيل انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الشهر القادم.
ومن خلال المتابعة لمواقف وردود فعل الأطراف المعنية بالاتفاق البحري، خاصة في لبنان وإسرائيل والولايات المتحدة، فإنه ليس مصادفة أن كل الأطراف، لبنانية وإسرائيلية وأمريكية، وباستثناء محدود في إسرائيل، اعتبرت الاتفاق " اتفاقا تاريخيا " وقد التقى على هذا الوصف الرئيس الأمريكي بايدن والرئيس اللبناني ميشيل عون، وحزب الله ورئيس وزراء إسرائيل، ولم يعارضه في إسرائيل سوى نتنياهو زعيم المعارضة الذي قال " إن لابيد باع إسرائيل لحزب الله "، وكذلك وزيرة الداخلية الإسرائيلية " ايلي شاكيد " التي امتنعت عن التصويت خلال جلسة مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغر لإقرار الاتفاق.
ثالثا: إنه في حين يلبي الاتفاق مصالح مهمة وعاجلة لكل من لبنان وإسرائيل والولايات المتحدة، كما سبقت الإشارة، فإن كلا من لبنان وإسرائيل حرصت على التأكيد على أن الاتفاق يلبي احتياجاتها ويحافظ على حقوقها ومواردها الطبيعية وأنه تم دون تنازلات - وهو ما أكده الرئيس اللبناني – وأن الاتفاق يؤسس " لمعادلة أمنية جديدة " حسبما قال وزير الدفاع الإسرائيلي بيني جانتس، وأنه " ليس في صالح حزب الله " حسبما زعم " ديدي برنيع " رئيس جهاز الموساد الإسرائيلي. أما البيت الأبيض فقد أشار إلى أن الاتفاق " يمثل فصلا جديدا للشعب اللبناني وأن واشنطن ستساعد في حل المشكلات التي قد تنشأ عنه " وقالت الخارجية الأمريكية إنه " يدشن حقبة جديدة من التعاون الإقليمي ويعزز الرخاء والأمن.. وأنه لا يعد تطبيعا للعلاقات بينهما ". على أية حال فإنه بغض النظر عن توظيف حزب الله للاتفاق لصالحه، فإن الاتفاق ستترتب عليه نتائج على الصعيدين اللبناني الإسرائيلي وعلى صعيد الوضع في شرق المتوسط، ولعل لبنان الشقيق يستفيد منه ومن حقل " قانا " على النحو المأمول.
