الأيديولوجيا بين التـضلـيل والمصلـحـة

03 أبريل 2024
03 أبريل 2024

للأيديولوجيا، في مـفـهـومها، السـياسي معـنى يطابـق نمط اشتـغالـيـتها في الحقـل السـياسي ويختـلف، بالتالي، عن معـناها من حـيث هي مـفهـوم معـرفي، مثـلا، أو من حـيث النـظـر إليها من زاوية نظريـة المعرفة. هـنا لا يـنـظر إلى الأيديولوجيا انطـلاقا من ثـنائـيات: الخطأ/ الصواب، الحـقيقة/ الزيـف، المطابـقة/ التـضليل...إلخ، بل تـقـارب انـطلاقا من صلاتها بـالمصلحة وما تمليه المصلحة تـلك من حاجات. مع ذلك، تسخـر الأيديولوجيا مجمـوع مـوارد قـوتها لممارسة التـأثـيـر على الوعي الذي تخاطبه. هكـذا تعـني الأيديولوجيا تلك الآلية التي تـطـمس ما يرتـئي مستخـدمها أنه ينبغي أن يطمـس من الواقع عن الذي هـو في حـكم الخصم؛ أي عن ذلك الذي يتوجـه إليه الخطاب الأيديولوجي. هي، إذن، تـفـيد معنى القـناع والحجب الهادف إلى تغـليط وعـي المخاطـب وتوهـيمه، أو دفع تـفـكيره نحو السـقوط في الوهـم... من دون أن يـعـي ذلك.

واضـح، هـنا، مقـدار ما يقـوم من صلـة بين الأيديولوجيا ومبـدأ المصلـحة؛ إذ الأخيـرة هـي ما يحمـل على اللـجوء إلى الأولى وتوسـلها واستـدخالها في عـدة الاشتـغـال. لذلك لا يكـون المعيـار الذي تـقاس بـه الأيديولوجيا، في هـذه الحال، معـيارا معـرفـيـا: أي من حيث مـقـدار مطابـقـتها أو عـدم مطابـقـتها للواقـع وللحـقيـقـة، بـل مـقـدار ما تسمح بـه من إمكـان لتحقـيـق تلك المصلحة. إذا كان كارل ماركـس هـو، حـقـا، مـن مـنـح مـفهـوم الأيديولوجيا كـل تلك الأهميـة البالغـة التي صارت لـه في الفـكـر الحديـث، فلأنـه ربطـها - ابتـداء - بالمصلحة فأدخـلها، بالتالي، في نسيـج السياسة وظـل يشـدد على أن كـل أيديولوجيا تـضمـر مصلـحة طبـقـيـة. ولكنـه تحاشـى، في الوقـت عـيـنـه، أن يحـصـرها في النـطاق السياسـي وأن يتجـاهـل استعـمالات أخـرى لها - بـدأت قـبلـه (مع فـلسفة الأنـوار) واستـمـرت بعـده حتـى اليـوم - من قبـيـل استـعـمالها المـعـرفـي بوصفـها تـفـكـيـرا لا عـقـلانـيـا ولا نـقـديـا؛ مـن دون أن يسـتـغـرق في هـذا الاستعـمال الأخيـر طـويلا على حساب الأول. والحـق أن الربـط بين الأيديولوجيا والمصلـحـة تـأسـس معه وتـوطـد، فكـان صناعـة ماركسيـة بامتـيـاز؛ بل لعلـه ما يفـسـر شيوع استـخـدام مفـهـوم الإيـديـولـوجـيـا، بعـده، في المجال التـداولـي.

هـذا في استـعمـال المفـهـوم في الحـقـل السياسـي، أمـا في الحـقـل المـعـرفـي فـتـعـني الإيـديـولـوجـيـا الوعـي الـزائـف، غير المـطابـق للواقـع. هـذا المفـهـوم مـوروث عـن فـلسفـة الأنـوار، في القـرن الثـامـن عشـر، وبصـماتـه الفرنسيـة واضحة في حـدة خطـاب الفلاسفـة عن الكنيسـة وما يـرد في نـقـدهـم لها مـن اتـهامهـم إيـاهـا بـمحاربـة العقـل ونـشـر أفكـار أقـرب ما تكـون إلى الأوهـام. ولقـد أخـذه ماركس عـن هـؤلاء الفلاسفـة - على نحـو ما يـضـح أمـره فـي كتـابـه «الإيـديـولـوجـيـا الألمانـيـة» - لكـنـه لم يـتـوقـف عـنـده، كمـا أشـرنا، مثـلما اتـسع نطـاق المفـهـوم هـذا - في معنـاه المـعـرفـي - فشـمـل دوائـر لاحقـة من الفـكـر الفـلسـفي والعـلوم الإنسانـيـة، بل وكـان في بعض نصوص ذلك الفـكـر مـفـتاحيـا حتـى وإن لم يـقـع اسـتخـدام المفـهـوم بلـفـظـه وإنـما بمضمونـه ومـدلـولـه.

لقد أحسن عبد اللـه العـروي حيـن عـثـر - وهـو يتـعـقـب استعمالات هـذا المفـهـوم في الـفـكـر الحديـث - على مـشـتـرك بين مـاركـس ونـيـتـشـه وفـرويـد في النـظـر إلى الإيـديـولـوجـيـا بهـذا المعـنى؛ أي بـما هـي وعـي زائـف. كـل واحـد مـن هـؤلاء الثـلاثـة يـردد الـفـكـرة عينـها بمفـردات ومـفاهيـم خاصـة بحـقـل اشـتـغالـه. يقـول ماركـس إن الإيـديـولـوجـيـا تخـفي مصلـحة طـبـقـيـة وتـغـلـط الوعـي؛ ويـذهـب نـيـتـشـه إلى القـول إن القـيـم أوهـام يـنـتـحـلـها المستـضـعـفـون لإخـفـاء حـنـقهـم على الأسـيـاد؛ ويـقـول فـرويـد إن العـقـلي محـض تـبريـر لإخـفـاء آليـة الرغـبـة الجارفـة التي تـؤسـس الحياة الـنـفسيـة اللاشعـوريـة. المـشتـرك في المسألة عنـد هـؤلاء المـفـكرين الثـلاثـة هـو أن الأقـوال والخـطابات لا تـنطـق بحـقيـقـتهـا، بـل تـضـمـرها وتسـتـرها. غير أنـها تـومـئ إليها في عـملـيـة التـستـر تلك، فـيـصبـح التـأويـل كـافـيـا - حيـنـها - لـرفـع غطـاء الحـجاب عـن حـقيـقـتـها المـخـفـيـة. وهكـذا فالأيديولوجيا، عـند هـؤلاء الـثلاثـة، هي تلك العـمليـة من طمـس الحـقيـقـة وحـجـبها من طـريق التـصريـح بغيـرها. ولكـنـها لا ترادف الكـذب في معـناها هـذا؛ لأن الكـذب - في جـوهـره - فـعـل واع (أو مـوعـى به)، أمـا الإيـديـولـوجـيـا فـقـد تكـون غير مـوعـى بـها.

قـلـنا: إن المعنـى الأكثـر شيـوعـا للأيديولوجيا في الـفـكـر الماركـسي هـو ذاك الذي يـقـرنـها بالمصلحـة؛ وهـو الذي استـمـر في ذلك الـفـكـر مقارنـة مع معـناهـا الإيـپـيستيـمي بوصـفها وعـيـا زائـفـا. وتـكـمـن المفارقـة، هـنا، في أن الماركسيـة - التي ظلـت تـرى في كـل أيديولوجيا طبـقـيـة - وجـدت مـن يـطـبـق عليها، هـي نفـسها، القاعـدة تلك؛ إذ مقابـل اعـتـقاد تلامـذة ماركـس أن نظـريـتهـم عبارة عـن عـلـم جديـد، انـتـقـدها علـم الاجتماع السـياسـي الألمانـي، فنظـر إليها بمـا هـي، أيـضا، أيديولوجيا معـبـرة عـن مصلحـة طـبـقـة أو طبـقات بـعـينـها لا بمـا هـي علـم كمـا يـدعـي كـثيـر ممن ينـتـمون إليها. مـن الواضـح أن المنـطـق الحاكـم للاجتـماعيـات الألمانيـة في هـذا الشـأن - خصوصا مع ماكـس ڤـيـبـر وتلامـذتـه - هو أن حـقـل التـعبير عن المصالح هو الحقـل السياسي، لا ميـدان المعرفـة والحقـيقـة، وهـو يعـني، بالتـبعـة، أن كلام الماركسيـة على الصلـة بين الإيـديـولـوجـيـا والمصلحة كـلام يشـمـلها هـي نفسـها ويـبـطـل أي حـديث عن صلـتـها بالعـلم. وهـذا يـعني، في الوقـت نفـسـه، أن الاجـتماعيـات السياسيـة الألمانيـة لا تـقـيـم كبيـر تمييـز بين الإيـديـولـوجـيـات؛ فهـذه في مرآتـها - وعلى اخـتـلافـها - سـواء: أي لا يتـمـتـع أي منها بأي اعـتـبـار معـرفـي.