الأوعية الضريبية وقود الاقتصاد الداعم

03 مايو 2021
03 مايو 2021

الأيهم الغساني -

تشكل السياسة الضريبية أحد أهم مكونات السياسة المالية العامة للدول والتي تقوم على إدارتها هياكل وأنظمة ضريبية بتشريعات قانونية وسلطات رقابية تتقاسمها أجهزة الدولة المختلفة دعما للمشروع الضريبي وتحقيقا للأهداف التنموية والاقتصادية المنشودة. وتعتبر تلك الأوعية الضريبية التي تتجه إليها أموال دافعي الضرائب ركيزة أساسية من ركائز الموارد المالية المتاحة للدولة، وهامش الأمان لتخفيف التبعات والآثار الاقتصادية الناجمة عن ظروف مختلفة سواء أكانت طبيعية أو سياسية أو اجتماعية خارج نطاق السيطرة. ولذلك تهتم النظريات الاقتصادية التي تتبناها الدول باتجاه تسليط الضوء على السياسات الضريبية الفاعلة والدافعة لحفز النمو الاقتصادي التي تنطلق من محركات اقتصادية واجتماعية وسياسية ذات أهداف وطنية تتعلق بالضبط المالي والتوظيف الأمثل للموارد والإمكانات المالية المتوافرة نحو تعميق مفهوم الرفاه الاجتماعي والمحافظة على معدلات نمو اقتصادي مرنة ومتزنة. ومن هذا المنطلق تأتي أهمية تطبيق السياسات الضريبية في الاقتصادات المتقدمة والنامية كونها قادرة على توظيف مفهوم الإصلاح المالي للموازنات المالية العامة للحكومات ومعالجة الاختلالات الهيكلية في توزيع الثروات العامة وجسر الهوة للتفاوت الطبقي بين أفراد المجتمع، علاوة على تحسين وتجويد الخدمات العامة وزيادة رقعتها تماشيا مع الخطط التنموية والإستراتيجية التي تمثل المحرك الرئيسي للدفع بالاستثمارات وتنشيط المناخ الاقتصادي.

تختلف القاعدة الإنتاجية وتصنيفات الدخول للأفراد والشركات باختلاف طبيعة المفهوم الشامل للمنهجية الاقتصادية المتبعة والهياكل الإنتاجية الدافعة لعمليات النمو الاقتصادي، فضلا عن السياسات والتشريعات المنظمة للتفاعلات التجارية والأنشطة الاقتصادية الناتجة عن تواؤم سياسات الطلب والعرض طبقا لظروف وأسس طبيعة المجتمع القائم على نشوء تلك المعادلة الاقتصادية. فالاقتصادات المتقدمة تختلف شروطها وسياساتها الاقتصادية بمحدداتها السياسية والثقافية والاجتماعية عن نظيرتها النامية أو المتخلفة، التي تتحرك ضمن سياقات اجتماعية وأنساق اقتصادية وثقافية تحركها الأنظمة السياسية بتشريعات وقوانين مستندة على طبيعة رأس المال البشري والبيئة الحاضنة له. فعلى سبيل المثال ينتهج الأفراد في الاقتصادات النامية الثقافة الاستهلاكية والطلب العالي على الخدمات نسبة إلى تدني التأسيس العلمي والمعرفي وانخفاض مستوى الدخل للفرد من الدخل القومي الإجمالي، إضافة إلى تركز القاعدة الإنتاجية لدى القطاعات التجارية والطبيعية ذات التخصصات الأحادية والموجهة للتصدير، مما يضعف دخل الفرد ويرفع من شراء السلع التي تدخل صناعاتها ضمن سلع وسيطة مستوردة، الأمر الذي يزيد من هجرة الأموال. علاوة على ذلك، فإن التركيبة الديموغرافية لطبيعة السكان وندرة المهارات الأساسية بسوق العمل والمتساوقة مع ضعف المكون المعرفي والتقني لدى رأس المال البشري مقارنة باقتصادات الدول المتقدمة، تعمل على زيادة الاعتماد نحو استجلاب العمالة المهاجرة والوافدة التي تنشط في قطاعات الصناعة الثانوية والخدمات وتجارة التجزئة المشكلة لحصة كبيرة من حجم الاقتصاد الداخلي، الأمر الذي يؤدي إلى المزيد من الضغط المتواصل لهجرة الأموال خارج النظام المالي للدول النامية بعكس الدول المتقدمة.

وحفاظا على خطط النمو الاقتصادي لتلبية الاحتياجات التنموية والمجتمعية للأفراد، يذهب صانعو السياسات المالية إلى ضبط معدلات الاستهلاك وتعظيم حصة الادخار المحلي، لتوجيهها نحو تنفيذ الاستثمارات المختلفة عن طريق تطبيق ضرائب غير مباشرة كضريبة القيمة المضافة وضريبة الدخل للشركات، وغيرها من الرسوم والإتاوات التي يتم تفعيلها على القطاعات الاستهلاكية الأكثر طلبا واستخداما. وبالمقاربة مع أنماط الاستهلاك ضمن اقتصاديات الدول المتقدمة، فإن جوهر الاختلاف يكمن في طبيعة المساقات الثقافية والاجتماعية والسياسية التي تشكل دعامة رئيسية لنضج العنصر البشري، علاوة على التقدم المعرفي والتقني الذي يتم توظيفه على جميع مسارات التنمية وروافد الإنتاج الاقتصادي، مع جملة السياسات والتشريعات المحفزة التي تصاحبها أنظمة وأسواق مالية داعمة لقيام مشاريع واستثمارات تساهم في توسيع القاعدة الإنتاجية، مما يسهم في رفع حصة دخل الفرد نسبة إلى الناتج القومي الإجمالي. ذلك الارتفاع في دخل الفرد يجعل الدول المتقدمة اقتصاديا تقوم بفرض ضرائب مباشرة على الأفراد ورسوما مالية للخدمات العامة، نظير المناخ الاقتصادي والمعيشي المتقدم فضلا عن إعادة استخدام العائدات المتحصلة في تمويل مشاريع البنية التحتية، والحفاظ على مستوى وجودة الخدمات الحكومية المقدمة، وكذلك تعزيز مظاهر التقدم المعرفي والثقافي الذي يواكب شروط الحداثة الاقتصادية ويضفي أدوارا متزايدة للرأسمالية الخلاقة في تحسين معدلات النمو والرخاء الاقتصادي.

ومن جانب آخر تشكل التبعية الاقتصادية للدول الرأسمالية المتقدمة ضغوطا متزايدة على أنماط الاستهلاك والمعيشة ومستوى الرفاه الاجتماعي للمجتمعات النامية، كما أنها تفرض قيودا على وسائل الإنتاج والقاعدة الإنتاجية المحركة للأنشطة الاقتصادية، الذي بدوره يحدث إرباكا متواصلا للهياكل الإنتاجية في المنظومة الاقتصادية مما يجعل اقتصادات الدول النامية وأسواقها تتحرك في مسارات متوازية مع نظيرتها المتقدمة، الأمر الذي يخلق آثارا مضاعفة لها في دورات النمو والانكماش الاقتصادي. فأصبح من الأهمية بمكان للدول النامية التي تنشد الاستدامة المالية ومعدلات تصاعدية لحركة النمو الاقتصادي القيام بانتزاع تلك التبعية والانعتاق عنها نحو تمكين الهياكل الاقتصادية المنتجة والمحركة للتفاعلات الرأسمالية، ولا يتأتى ذلك إلا بحدوث تغير منهجي في الفكر والاجتماع والسياسة الذي يقتضي التخلص من هذه التبعية ويرنو نحو تحقيق مفاهيم الأمن الاقتصادي والاجتماعي وتنمية رأس المال البشري في تأصيل المشروع النهضوي للاقتصاد الوطني.

إن استخدام السياسة الضريبية لتحقيق النمو الاقتصادي هو شرط ضروري وليس الوحيد لأنها تهيئ المناخ للنمو وتدفع به، ولكن النمو نفسه يتحقق باستخدام الموارد الاقتصادية والعمل والإدارة ورأس المال بكفاءة، فكلما كان النظام الضريبي مرنا ولا يتسبب في عرقلة استخدام الموارد بهذه الكفاءة كلما كان أفضل وأنجع حالا، وفي المقابل تكمن صعوبة تحقيق هدف العدالة الاجتماعية في توزيع الدخل القومي والثروة الوطنية مع مسار تحقيق هدف النمو الاقتصادي في آن واحد. وعليه يبقى ثالوث الفقر والبطالة والتفاوت الطبقي هو المعرقل الرئيس لاستدامة التنمية الاقتصادية وتعزيز حركة الإنتاج في المجتمعات النامية، مما يقود إلى استحداث سياسات مالية ضريبية تعزز مبدأ الحماية المجتمعية وتدفع بمستوى الرفاه المعيشي شريطة انعكاس تلكم السياسات على حركة الإنتاج ومعدلات النمو الاقتصادي.